( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) .
قوله تعالى : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) .
[ ص: 111 ] اعلم أنه تعالى لما أمر محمدا صلى الله عليه وسلم باتباع إبراهيم - عليه السلام - بين الشيء الذي أمره بمتابعته فيه ، فقال : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة ) .
واعلم : وهي الحكمة ، والموعظة الحسنة ، والمجادلة بالطريق الأحسن ، وقد ذكر الله تعالى هذا الجدل في آية أخرى ، فقال : ( أنه تعالى أمر رسوله أن يدعو الناس بأحد هذه الطرق الثلاثة ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ) [العنكبوت : 46] . ولما ذكر الله تعالى هذه الطرق الثلاثة وعطف بعضها على بعض - وجب أن تكون طرقا متغايرة متباينة ، وما رأيت للمفسرين فيه كلاما ملخصا مضبوطا .
واعلم أن الدعوة إلى المذهب والمقالة لا بد وأن تكون مبنية على حجة وبينة ، والمقصود من ذكر الحجة ، إما تقرير ذلك المذهب وذلك الاعتقاد في قلوب المستمعين ، وإما أن يكون المقصود إلزام الخصم وإفحامه .
أما القسم الأول : فينقسم أيضا إلى قسمين ؛ لأن الحجة إما أن تكون حجة حقيقية يقينية قطعية ، مبرأة عن احتمال النقيض ، وإما أن لا تكون كذلك ، بل تكون حجة تفيد الظن الظاهر والإقناع الكامل ، فظهر بهذا التقسيم انحصار الحجج في هذه الأقسام الثلاثة :
أولها : ، وهذه أشرف الدرجات وأعلى المقامات ، وهي التي قال الله في صفتها : ( الحجة القطعية المفيدة للعقائد اليقينية ، وذلك هو المسمى بالحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ) [البقرة : 269] .
وثانيها : الأمارات الظنية والدلائل الإقناعية وهي الموعظة الحسنة .
وثالثها : الدلائل التي يكون المقصود من ذكرها إلزام الخصوم وإفحامهم ، وذلك هو الجدل ، ثم هذا الجدل على قسمين :
القسم الأول : أن يكون دليلا مركبا من مقدمات مسلمة في المشهور عند الجمهور ، أو من مقدمات مسلمة عند ذلك القائل ، وهذا الجدل هو . الجدل الواقع على الوجه الأحسن
القسم الثاني : أن يكون ذلك الدليل مركبا من مقدمات باطلة فاسدة إلا أن قائلها يحاول ترويجها على المستمعين بالسفاهة والشغب والحيل الباطلة والطرق الفاسدة ، وهذا القسم لا يليق بأهل الفضل ، إنما اللائق بهم هو القسم الأول ، وذلك هو المراد بقوله تعالى : ( وجادلهم بالتي هي أحسن ) فثبت بما ذكرنا انحصار الدلائل والحجج في هذه الأقسام الثلاثة المذكورة في هذه الآية .
إذا عرفت هذا فنقول : أهل العلم ثلاث طوائف : الكاملون الطالبون للمعارف الحقيقية والعلوم اليقينية ، والمكالمة مع هؤلاء لا تمكن إلا بالدلائل القطعية اليقينية وهي الحكمة .
والقسم الثاني : الذين تغلب على طباعهم المشاغبة والمخاصمة ، لا طلب المعرفة الحقيقية والعلوم اليقينية ، والمكالمة اللائقة بهؤلاء المجادلة التي تفيد الإفحام والإلزام .
وهذان القسمان هما الطرفان ؛ فالأول هو طرف الكمال ، والثاني طرف النقصان .
وأما القسم الثالث : فهو الواسطة ، وهم الذين ما بلغوا في الكمال إلى حد الحكماء المحققين ، وفي النقصان والرذالة إلى حد المشاغبين المخاصمين ، بل هم أقوام بقوا على الفطرة الأصلية والسلامة الخلقية ، وما بلغوا إلى درجة الاستعداد لفهم الدلائل اليقينية والمعارف الحكمية ، والمكالمة مع هؤلاء لا تمكن إلا [ ص: 112 ] بالموعظة الحسنة ، وأدناها المجادلة . وأعلى مراتب الخلائق الحكماء المحققون ، وأوسطهم عامة الخلق وهم أرباب السلامة ، وفيهم الكثرة والغلبة ، وأدنى المراتب الذين جبلوا على طبيعة المنازعة والمخاصمة ، فقوله تعالى : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة ) معناه : ادع الأقوياء الكاملين إلى الدين الحق بالحكمة ، وهي البراهين القطعية اليقينية - وعوام الخلق بالموعظة الحسنة ، وهي الدلائل اليقينية الإقناعية الظنية . والتكلم مع المشاغبين بالجدل على الطريق الأحسن الأكمل .
ومن لطائف هذه الآية أنه قال : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ) فقصر الدعوة على ذكر هذين القسمين ؛ لأن الدعوة إن كانت بالدلائل القطعية فهي الحكمة ، وإن كانت بالدلائل الظنية فهي الموعظة الحسنة ، أما الجدل فليس من باب الدعوة ، بل المقصود منه غرض آخر مغاير للدعوة وهو الإلزام والإفحام ؛ فلهذا السبب لم يقل : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة والجدل الأحسن ، بل قطع الجدل عن باب الدعوة ؛ تنبيها على أنه لا يحصل الدعوة ، وإنما الغرض منه شيء آخر ، والله أعلم .
واعلم أن هذه المباحث تدل على أنه تعالى أدرج في هذه الآية هذه الأسرار العالية الشريفة ، مع أن أكثر الخلق كانوا غافلين عنها ، فظهر أن هذا الكتاب الكريم لا يهتدي إلى ما فيه من الأسرار إلا من كان من خواص أولي الأبصار .
ثم قال تعالى : ( إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين ) والمعنى : أنك مكلف بالدعوة إلى الله تعالى بهذه الطرق الثلاثة ، فأما حصول الهداية فلا يتعلق بك ، فهو تعالى أعلم بالضالين وأعلم بالمهتدين . والذي عندي في هذا الباب أن جواهر النفوس البشرية مختلفة بالماهية ، فبعضها نفوس مشرقة صافية قليلة التعلق بالجسمانيات كثيرة الانجذاب إلى عالم الروحانيات . وبعضها مظلمة كدرة قوية التعلق بالجسمانيات عديمة الالتفات إلى الروحانيات ، ولما كانت هذه الاستعدادات من لوازم جواهرها ، لا جرم يمتنع انقلابها وزوالها ؛ فلهذا قال تعالى : ، فإنه تعالى هو العالم بضلال النفوس الضالة الجاهلة وبإشراق النفوس المشرقة الصافية ، فلكل نفس فطرة مخصوصة وماهية مخصوصة ، كما قال : ( اشتغل أنت بالدعوة ولا تطمع في حصول الهداية للكل فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ) [الروم : 30] . والله أعلم .