( ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما )
قوله تعالى : ( ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا إنكم لتقولون قولا عظيما ) .
[ ص: 171 ]
اعلم أنه تعالى جمع في هذه الآية خمسة وعشرين نوعا من التكاليف :
فأولها : قوله : ( ولا تجعل مع الله إلها آخر ) وقوله : ( وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه ) [ الإسراء : 23 ] مشتمل على تكليفين : ، فكان المجموع ثلاثة . وقوله : ( الأمر بعبادة الله تعالى ، والنهي عن عبادة غير الله وبالوالدين إحسانا ) [ الإسراء : 23 ] هو الرابع ، ثم ذكر في شرح ذلك الإحسان خمسة أخرى وهي : قوله : ( فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا ) [ الإسراء : 23 - 24 ] فيكون المجموع تسعة ، ثم قال : ( وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ) وهو ثلاثة فيكون المجموع اثني عشر . ثم قال : ( ولا تبذر تبذيرا ) [ الإسراء : 26 ] فيصير ثلاثة عشر . ثم قال : ( وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسورا ) وهو الرابع عشر ثم قال : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ) [ الإسراء : 28 - 29 ] إلى آخر الآية وهو الخامس عشر ، ثم قال : ( ولا تقتلوا أولادكم ) [ الإسراء : 31 ] وهو السادس عشر ، ثم قال : ( ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ) وهو السابع عشر ثم قال : ( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا ) وهو الثامن عشر ، ثم قال : ( فلا يسرف في القتل ) [ الإسراء : 33 ] وهو التاسع عشر ، ثم قال : ( وأوفوا بالعهد ) [ الإسراء : 34 ] وهو العشرون . ثم قال : ( وأوفوا الكيل إذا كلتم ) وهو الحادي والعشرون ، ثم قال : ( وزنوا بالقسطاس المستقيم ) [ الإسراء : 35 ] وهو الثاني والعشرون ، ثم قال : ( ولا تقف ما ليس لك به علم ) [ الإسراء : 36 ] وهو الثالث والعشرون ، ثم قال : ( ولا تمش في الأرض مرحا ) [ الإسراء : 37 ] وهو الرابع والعشرون ، ثم قال : ( ولا تجعل مع الله إلها آخر ) وهو الخامس والعشرون ، فهذه خمسة وعشرون نوعا من التكاليف بعضها أوامر وبعضها نواه جمعها الله تعالى في هذه الآيات وجعل فاتحتها قوله : ( لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا ) [ الإسراء : 22 ] وخاتمتها قوله : ( ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا ) .
إذا عرفت هذا فنقول : ههنا فوائد :
الفائدة الأولى ; قوله : ( ذلك ) إشارة إلى كل ما تقدم ذكره من التكاليف وسماها حكمة ، وإنما سماها بهذا الاسم لوجوه :
أحدها : أن حاصلها يرجع إلى الأمر بالتوحيد وأنواع الطاعات والخيرات والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة ، والعقول تدل على صحتها . فالآتي بمثل هذه الشريعة لا يكون داعيا إلى دين الشيطان بل الفطرة الأصلية تشهد بأنه يكون داعيا إلى دين الرحمن ، وتمام تقرير هذا ما نذكره في سورة الشعراء في قوله : ( هل أنبئكم على من تنزل الشياطين تنزل على كل أفاك أثيم ) [ الشعراء : 221 - 222 ] .
وثانيها : أن الأحكام المذكورة في هذه الآيات شرائع واجبة الرعاية في جميع الأديان والملل ولا تقبل النسخ والإبطال ، فكانت محكمة وحكمة من هذا الاعتبار .
وثالثها : أن الحكمة عبارة عن معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به ، فالأمر بالتوحيد عبارة عن القسم الأول وسائر التكاليف عبارة عن تعليم الخيرات حتى يواظب الإنسان عليها ولا ينحرف عنها ، فثبت أن هذه الأشياء المذكورة في هذه الآيات عين الحكمة ، وعن : أن هذه الآيات كانت في ألواح ابن عباس موسى عليه الصلاة والسلام :
أولها : ( ولا تجعل مع الله إلها آخر ) قال تعالى : ( وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلا لكل شيء ) [ الأعراف : 145 ] .
والفائدة الثانية : من فوائد هذه الآية أنه تعالى بدأ في هذه التكاليف بالأمر بالتوحيد ، والنهي عن الشرك [ ص: 172 ] وختمها بعين هذا المعنى ، والمقصود منه التنبيه على أن أول كل عمل وقول وفكر وذكر يجب أن يكون ذكر التوحيد ، وآخره يجب أن يكون ذكر التوحيد ، تنبيها على أن المقصود من جميع التكاليف هو معرفة التوحيد والاستغراق فيه ، فهذا التكرير حسن موقعه لهذه الفائدة العظيمة ثم إنه تعالى ذكر في الآية الأولى أن الشرك يوجب أن يكون صاحبه مذموما مخذولا ، وذكر في الآية الأخيرة أن ، فاللوم والخذلان يحصل في الدنيا ، وإلقاؤه في جهنم يحصل يوم القيامة ويجب علينا أن نذكر الفرق بين المذموم المخذول ، وبين الملوم المدحور . فنقول : أما الفرق بين المذموم وبين الملوم ، فهو أن كونه مذموما معناه : أن يذكر له أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح ومنكر ، فهذا معنى كونه مذموما ، وإذا ذكر له ذلك فبعد ذلك يقال له لم فعلت مثل هذا الفعل ؟ وما الذي حملك عليه ؟ وما استفدت من هذا العمل إلا إلحاق الضرر بنفسك ، وهذا هو اللوم . فثبت أن أول الأمر هو أن يصير مذموما ، وآخره أن يصير ملوما ، وأما الفرق بين المخذول وبين المدحور فهو أن المخذول عبارة عن الضعيف يقال : تخاذلت أعضاؤه أي : ضعفت ، وأما المدحور فهو المطرود . والطرد عبارة عن الاستخفاف والإهانة قال تعالى : ( الشرك يوجب أن يلقي صاحبه في جهنم ملوما مدحورا ويخلد فيه مهانا ) [ الفرقان : 69 ] فكونه مخذولا عبارة عن ترك إعانته وتفويضه إلى نفسه ، وكونه مدحورا عبارة عن إهانته والاستخفاف به ، فثبت أن أول الأمر أن يصير مخذولا ، وآخره أن يصير مدحورا ، والله أعلم بمراده .
وأما قوله : ( أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثا ) فاعلم أنه تعالى لما نبه على فساد طريقة من أثبت لله شريكا ونظيرا نبه على طريقة من أثبت له الولد وعلى كمال جهل هذه الفرقة ، وهي أنهم اعتقدوا أن الولد قسمان ; فأشرف القسمين البنون ، وأخسهما البنات . ثم إنهم أثبتوا البنين لأنفسهم مع علمهم بنهاية عجزهم ونقصهم وأثبتوا البنات لله مع علمهم بأن الله تعالى هو الموصوف بالكمال الذي لا نهاية له والجلال الذي لا غاية له ، وذلك يدل على نهاية جهل القائل بهذا القول ونظيره قوله تعالى : ( أم له البنات ولكم البنون ) [ الطور : 39 ] وقوله : ( ألكم الذكر وله الأنثى ) [ النجم : 21 ] وقوله : ( أفأصفاكم ) يقال أصفاه بالشيء إذا آثر به ، ويقال للضياع التي يستخصها السلطان لخاصه : الصوافي . قال أبو عبيدة في قوله : ( أفأصفاكم ) أفخصكم ، وقال المفضل : أخلصكم . قال النحويون هذه الهمزة همزة تدل على الإنكار على صيغة السؤال عن مذهب ظاهر الفساد لا جواب لصاحبه إلا بما فيه أعظم الفضيحة .
ثم قال تعالى : ( إنكم لتقولون قولا عظيما ) وبيان هذا التعظيم من وجهين :
الأول : أن إثبات الولد يقتضي كونه تعالى مركبا من الأجزاء والأبعاض ، وذلك يقدح في كونه قديما واجب الوجود لذاته . وذلك عظيم من القول ومنكر من الكلام .
والثاني : أن بتقدير ثبوت الولد فقد جعلتم أشرف القسمين لأنفسكم وأخس القسمين لله . وهذا أيضا جهل عظيم .