ثم قال تعالى : ( قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا    ) وفيه مسألتان : 
المسألة الأولى : قرأ أبو عمرو  ويعقوب    ( رشدا ) بفتح الراء والشين ، وعن  ابن عباس    -رضي الله عنهما- بضم الراء والشين ، والباقون بضم الراء وتسكين الشين ، قال القفال    : وهي لغات في معنى واحد ، يقال : رشد ورشد مثل : نكر ونكر ، كما يقال : سقم وسقم ، وشغل وشغل ، وبخل وبخل ، وعدم وعدم ، وقوله : ( رشدا    ) أي علما ذا رشد ، قال القفال    : قوله : ( رشدا    ) يحتمل وجهين : 
أحدهما : أن يكون الرشد راجعا إلى الخضر  أي مما علمك الله وأرشدك به . 
والثاني : أن يرجع ذلك إلى موسى  ، ويكون المعنى على أن تعلمني وترشدني مما علمت . 
المسألة الثانية : اعلم أن هذه الآيات تدل على أن موسى  عليه السلام راعى أنواعا كثيرة من الأدب واللطف عندما أراد أن يتعلم من الخضر     : 
فأحدها : أنه جعل نفسه تبعا له ؛ لأنه قال : ( هل أتبعك    ) . 
وثانيها : أنه استأذن في إثبات هذه التبعية ، فإنه قال : هل تأذن لي أن أجعل نفسي تبعا لك ، وهذه مبالغة عظيمة في التواضع . 
وثالثها : أنه قال : ( على أن تعلمني    ) وهذا إقرار له على نفسه بالجهل وعلى أستاذه بالعلم . 
ورابعها : أنه قال : ( تعلمني مما علمت    ) وصيغة من للتبعيض فطلب منه تعليم بعض ما علمه الله ، وهذا أيضا مشعر بالتواضع ، كأنه يقول له : لا أطلب منك أن تجعلني مساويا في العلم لك ، بل أطلب منك أن تعطيني جزأ من أجزاء علمك ، كما يطلب الفقير من الغني أن يدفع إليه جزأ من أجزاء ماله . 
وخامسها : أن قوله : ( مما علمت    ) اعتراف بأن الله علمه ذلك العلم . 
وسادسها : أن قوله : ( رشدا    ) طلب منه للإرشاد والهداية ، والإرشاد هو الأمر الذي لو لم يحصل لحصلت الغواية والضلال . 
وسابعها : أن قوله : ( تعلمني مما علمت    ) معناه أنه طلب منه أن يعامله بمثل ما عامله الله به ، وفيه إشعار بأنه يكون إنعامك علي عند هذا التعليم شبيها بإنعام الله تعالى عليك في هذا   [ ص: 129 ] التعليم ولهذا م ولهذا المعنى قيل : أنا عبد من تعلمت منه حرفا . 
وثامنها : أن المتابعة عبارة عن الإتيان بمثل فعل الغير لأجل كونه فعلا لذلك الغير ، فإنا إذا قلنا : لا إله إلا الله ، فاليهود  الذين كانوا قبلنا كانوا يذكرون هذه الكلمة ؛ فلا يجب كوننا متبعين لهم في ذكر هذه الكلمة ؛ لأنا لا نقول هذه الكلمة لأجل أنهم قالوها ، بل إنما نقولها لقيام الدليل على أنه يجب ذكرها ، أما إذا أتينا بهذه الصلوات الخمس على موافقة فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنما أتينا بها لأجل أنه عليه السلام أتى بها لا جرم كنا متابعين في فعل هذه الصلوات لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، إذا ثبت هذا فنقول : قوله : ( هل أتبعك    ) يدل على أنه يأتي بمثل أفعال ذلك الأستاذ لمجرد كون ذلك الأستاذ آتيا بها . وهذا يدل على أن المتعلم يجب عليه في أول الأمر التسليم وترك المنازعة والاعتراض    . 
وتاسعها : أن قوله : ( أتبعك    ) يدل على طلب متابعته مطلقا في جميع الأمور ؛ غير مقيد بشيء دون شيء . 
وعاشرها : أنه ثبت بالأخبار أن الخضر  عرف أولا أنه نبي بني إسرائيل  وأنه هو موسى  صاحب التوراة وهو الرجل الذي كلمه الله عز وجل من غير واسطة ، وخصه بالمعجزات القاهرة الباهرة ، ثم إنه عليه السلام مع هذه المناصب الرفيعة والدرجات العالية الشريفة أتى بهذه الأنواع الكثيرة من التواضع ، وذلك يدل على كونه عليه السلام آتيا في طلب العلم بأعظم أنواع المبالغة ، وهذا هو اللائق به ؛ لأن كل من كانت إحاطته بالعلوم أكثر كان علمه بما فيها من البهجة والسعادة أكثر ؛ فكان طلبه لها أشد ، وكان تعظيمه لأرباب العلم أكمل وأشد . 
والحادي عشر : أنه قال : ( هل أتبعك على أن تعلمني    ) فأثبت كونه تبعا له أولا ثم طلب ثانيا أن يعلمه ، وهذا منه ابتداء بالخدمة ثم في المرتبة الثانية طلب منه التعليم . 
والثاني عشر : أنه قال : ( هل أتبعك على أن تعلمني    ) فلم يطلب على تلك المتابعة على التعليم شيئا كأنه قال : لا أطلب منك على هذه المتابعة المال والجاه ولا غرض لي إلا طلب العلم . 
				
						
						
