قوله تعالى : ( وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا لقد أحصاهم وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا ) [ ص: 217 ] .
اعلم أنه تعالى لما رد على عبدة الأوثان عاد إلى الرد على من أثبت له ولدا : ( وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ) [ التوبة : 30 ] والكل داخلون في هذه الآية ومنهم من خصها بالعرب الذي أثبتوا أن الملائكة بنات الله قالوا ؛ لأن الرد على وقالت العرب الملائكة بنات الله النصارى تقدم في أول السورة ، أما الآن فإنه لما رد على العرب الذين قالوا بعبادة الأوثان تكلم في أما قوله : ( إفساد قول الذين قالوا بعبادة الملائكة لكونهم بنات الله لقد جئتم شيئا إدا ) فقرئ إدا بالكسر والفتح . قال ابن خالويه الإد والأد العجب وقيل المنكر العظيم والأدة الشدة وأدني الأمر وآدني أثقلني . قرئ يتفطرن بالتاء بعد الياء أعني المعجمة من تحتها واختلفوا في يكاد فقرأ بعضهم بالياء المعجمة من تحتها ، وبعضهم بالتاء من فوق ، والانفطار من فطره إذا شقه والتفطر من فطره إذا شققه وكرر الفعل فيه وقرأ ابن مسعود يتصدعن وقوله : ( وتخر الجبال هدا ) أي تهد هدا أو مهدودة أو مفعول له ، أي : لأنها تهد والمعنى أنها تتساقط أشد ما يكون تساقط البعض على البعض ، فإن قيل من أين يؤثر القول بإثبات الولد لله تعالى في انفطار السماوات وانشقاق الأرض وخرور الجبال ؟ قلنا فيه وجوه :
أحدها : أن الله سبحانه وتعالى يقول أفعل هذا بالسماوات والأرض والجبال عند وجود هذه الكلمة غضبا مني على من تفوه بها لولا حلمي وأني لا أعجل بالعقوبة كما قال : ( إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده إنه كان حليما غفورا ) [ فاطر : 41 ] .
وثانيها : أن يكون استعظاما للكلمة وتهويلا من فظاعتها وتصويرا لأثرها في الدين وهدمها لأركانه وقواعده .
وثالثها : أن السماوات والأرض والجبال تكاد أن تفعل ذلك لو كانت تعقل من غلظ هذا القول وهذا تأويل أبي مسلم .
ورابعها : أن السماوات والأرض والجبال كانت سليمة من كل العيوب فلما تكلم بنو آدم بهذا القول ظهرت العيوب فيها أما قوله : ( أن دعوا للرحمن ولدا ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : في إعرابه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يكون مجرورا بدلا من الهاء في منه أو منصوبا بتقدير سقوط اللام وإفضاء الفعل أي هذا لأن دعوا أو مرفوعا بأنه فاعل " هدا " أي هدها دعاء الولد للرحمن ، والحاصل أنه تعالى بين أن سبب تلك الأمور العظيمة هذا القول .
المسألة الثانية : إنما كرر لفظ الرحمن مرات تنبيها على . أنه سبحانه وتعالى هو الرحمن وحده من قبل أن أصول النعم وفروعها ليست إلا منه
المسألة الثالثة : قوله : ( دعوا للرحمن ) هو من دعا بمعنى سمى المتعدي إلى مفعولين فاقتصر على أحدهما الذي هو الثاني طلبا للعموم والإحاطة بكل من ادعى له ولدا أو من دعا بمعنى نسب الذي هو مطاوعه كما في قوله - صلى الله عليه وسلم - : " " . قال الشاعر : من ادعى إلى غير مواليه
إنا بني نهشل لا ندعي لأب
أي لا ننتسب إليه ، ثم قال تعالى : ( وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا ) أي هو محال ، أما الولادة المعروفة فلا مقال في امتناعها ، وأما التبني فلأن الولد لا بد وأن يكون شبيها بالوالد ، ولا مشبه لله تعالى ، ولأن اتخاذ الولد إنما يكون لأغراض لا تصح في الله من سروره به واستعانته به وذكر جميل ، وكل ذلك لا يليق به ، ثم قال : ( إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبدا ) والمراد أنه ما من معبود لهم في السماوات [ ص: 218 ] والأرض من الملائكة والناس إلا وهو يأتي الرحمن أي يأوي إليه ويلتجئ إلى ربوبيته عبدا منقادا مطيعا خاشعا راجيا كما يفعل العبيد ، ومنهم من حمله على يوم القيامة خاصة والأول أولى ؛ لأنه لا تخصيص فيه . وقوله : ( لقد أحصاهم وعدهم عدا ) أي : كلهم تحت أمره وتدبيره وقهره وقدرته ، فهو سبحانه محيط بهم ، ويعلم مجمل أمورهم وتفاصيلها لا يفوته شيء من أحوالهم ، وكل واحد منهم يأتيه يوم القيامة منفردا ليس معه من هؤلاء المشركين أحد وهم برآء منهم .