المسألة السابعة : اعلم موسى عليه السلام استدل على إثبات الصانع بأحوال المخلوقات وهو قوله : ( أن ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) وهذه الدلالة هي التي ذكرها الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم في قوله : ( سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى ) [ الأعلى : 1 ] قال إبراهيم عليه السلام : ( فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين ) [ الشعراء : 78 ] وإن موسى عليه السلام في أكثر الأمور [ ص: 57 ] يعول على دلائل إبراهيم عليه السلام وسيأتي تقرير ذلك في سورة الشعراء إن شاء الله تعالى ، واعلم أنه يشبه أن يكون الخلق عبارة عن تركيب القوالب والأبدان ، والهداية عبارة عن إيداع القوى المدركة والمحركة في تلك الأجسام وعلى هذا التقدير يكون الخلق مقدما على الهداية ; ولذلك قال : ( فإذا سويته ونفخت فيه من روحي ) [ الحجر : 29 ] فالتسوية راجعة إلى القالب ، ونفخ الروح إشارة إلى إيداع القوى وقال : ( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ) [ المؤمنون : 12 ] إلى أن قال : ( ثم أنشأناه خلقا آخر ) [ المؤمنون : 14 ] فظهر أن الخلق مقدم على الهداية ، والشروع في بيان عجائب حكمة الله تعالى في الخلق والهداية شروع في بحر لا ساحل له . ولنذكر منه أمثلة قريبة إلى الأفهام :
أحدها : أن الطبيعي يقول : الثقيل هابط والخفيف صاعد وأشد الأشياء ثقلا الأرض ثم الماء وأشدها خفة النار ثم الهواء فلذلك وجب أن تكون النار أعلى العنصريات والأرض أسفلها ، ثم إنه سبحانه قلب هذا الترتيب في خلقة الإنسان فجعل أعلى الأشياء منه العظم والشعر وهما أيبس ما في البدن وهما بمنزلة الأرض ، ثم جعل تحته الدماغ الذي هو بمنزلة الماء ، وجعل تحته النفس الذي هو بمنزلة الهواء ، وجعل تحته الحرارة الغريزية التي في القلب التي هي بمنزلة النار ، فجعل مكان الأرض من البدن الأعلى ، وجعل مكان النار من البدن الأسفل ؛ ليعرف أن ذلك بتدبير القادر الحكيم الرحيم لا باقتضاء العلة والطبيعة .
وثانيها : أنك إذا نظرت إلى عجائب النحل في تركيب البيوت المسدسة وعجائب أحوال البق والبعوض في اهتدائها إلى مصالح أنفسها لعرفت أن ذلك لا يمكن إلا بإلهام مدبر عالم بجميع المعلومات .
وثالثها : من المطعوم والمشروب والملبوس والمنكوح ، ثم هداهم إلى كيفية الانتفاع بها ويستخرجون الحديد من الجبال اللآلي من البحار ويركبون الأدوية والدرياقات النافعة ويجمعون بين الأشياء المختلفة فيستخرجون لذات الأطعمة فثبت أنه سبحانه هو الذي خلق كل الأشياء ، ثم أعطاهم العقول التي بها يتوصلون إلى كيفية الانتفاع بها ، وهذا غير مختص بالإنسان بل عام في جميع الحيوانات ، فأعطى الإنسان إنسانة والحمار حمارة والبعير ناقة ، ثم هداه لها ليدوم التناسل وهدى الأولاد لثدي الأمهات ، بل هذا غير مختص بالحيوانات بل هو حاصل في أعضائها فإنه خلق اليد على تركيب خاص وأودع فيها قوة الأخذ ، وخلق الرجل على تركيب خاص وأودع فيها قوة المشي ، وكذا العين والأذن وجميع الأعضاء ، ثم ربط البعض بالبعض على وجوه يحصل من ارتباطها مجموع واحد ، وهو الإنسان . وإنما دلت هذه الأشياء على وجود الصانع سبحانه لأن اتصاف كل جسم من هذه الأجسام بتلك الصفة أعني التركيب والقوة والهداية ، إما أن يكون واجبا أو جائزا ، والأول باطل لأنا نشاهد تلك الأجسام بعد الموت منفكة عن تلك التراكيب والقوى فدل على أن ذلك جائز ، والجائز لا بد له من مرجح وليس ذلك المرجح هو الإنسان ولا أبواه لأن فعل ذلك يستدعي قدرة عليه وعلما بما فيه من المصالح والمفاسد ، والأمران نائيان عن الإنسان لأنه بعد كمال عقله يعجز عن تغيير شعرة واحدة ، وبعد البحث الشديد عن كتب التشريح لا يعرف من منافع الأعضاء ومصالحها إلا القدر القليل فلا بد أن يكون المتولي لتدبيرها وترتيبها موجودا آخر ، وذلك الموجود لا يجوز أن يكون جسما لأن الأجسام متساوية في الجسمية فاختصاص ذلك الجسم بتلك المؤثرية لا بد وأن يكون جائزا ، وإن كان جائزا افتقر إلى سبب آخر ، والدور والتسلسل محالان ، فلا بد من الانتهاء في سلسلة الحاجة إلى موجود مؤثر ومدبر ليس بجسم ولا جسماني ، ثم تأثير ذلك المؤثر إما أن يكون بالذات أو بالاختيار ، والأول محال لأن [ ص: 58 ] الموجب لا يميز مثلا عن مثل ، وهذه الأجسام متساوية في الجسمية فلم اختص بعضها بالصورة الفلكية وبعضها بالصورة العنصرية وبعضها بالنباتية وبعضها بالحيوانية ؟ فثبت أن المؤثر والمدبر قادر ، والقادر لا يمكنه مثل هذه الأفعال العجيبة إلا إذا كان عالما ، ثم إن هذا المدبر الذي ليس بجسم ولا جسماني لا بد وأن يكون واجب الوجود في ذاته وفي صفاته وإلا لافتقر إلى مدبر آخر ويلزم التسلسل وهو محال ، وإذا كان واجب الوجود في قادريته وعالميته ، والواجب لذاته لا يتخصص ببعض الممكنات دون البعض وجب [ أن ] يكون عالما بكل ما صح أن يكون معلوما وقادرا على كل ما صح أن يكون مقدورا فظهر بهذه الدلالة التي تمسك بها موسى عليه السلام ، ونبه على تقريرها استناد العالم إلى مدبر ليس بجسم ولا جسماني وهو واجب الوجود في ذاته وفي صفاته عالم بكل المعلومات قادر على كل المقدورات وذلك هو الله سبحانه وتعالى . أنه تعالى هو الذي أنعم على الخلائق بما به قوامهم
المسألة الثامنة : أن فرعون خاطب الاثنين بقوله : ( فمن ربكما ) ثم وجه النداء إلى أحدهما وهو موسى عليه السلام لأنه الأصل في النبوة وهارون وزيره وتابعه ، وإما لأن فرعون كان لخبثه يعلم الرتة التي في لسان موسى عليه السلام فأراد استنطاقه دون أخيه لما عرف من فصاحته والرتة التي في لسان موسى عليه السلام ويدل عليه قوله : ( أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين ) [ الزخرف : 52 ] .