واعلم أنه تعالى بعد أن تكلم في التوحيد ونفي الأنداد وإثبات النبوة والجواب عن شبهات المنكرين لها وفي أحوال القيامة ؛ شرع في ذكر القصص على السنة المعلومة .
القصة الأولى قصة موسى عليه السلام .
( ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا فقلنا اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا فدمرناهم تدميرا ) .
اعلم أنه تعالى لما قال : ( وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا ) [الفرقان : 31] أتبعه بذكر جماعة من الأنبياء ، وعرفه بما نزل بمن كذب من أممهم ، فقال : ( ولقد آتينا موسى الكتاب وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا ) ، والمعنى : لست يا محمد بأول من أرسلناه فكذب ، وآتيناه الآيات فرد ، فقد آتينا موسى التوراة وقوينا عضده بأخيه هارون ، ومع ذلك فقد رد . وفيه مسائل :
المسألة الأولى : كونه وزيرا لا يمنع من كونه شريكا له في النبوة ، فلا وجه لقول من قال في قوله : ( فقلنا اذهبا ) إنه خطاب لموسى عليه السلام وحده ، بل يجري مجرى قوله : ( اذهبا إلى فرعون إنه طغى ) [طه : 43] [ ص: 71 ] فإن قيل : إن كونه وزيرا كالمنافي لكونه شريكا ، بل يجب أن يقال : إنه لما صار شريكا خرج عن كونه وزيرا ، قلنا : لا منافاة بين الصفتين ؛ لأنه لا يمتنع أن يشركه في النبوة ويكون وزيرا وظهيرا ومعينا له .
المسألة الثانية : قال الزجاج : الوزير في اللغة الذي يرجع إليه ويتحصن برأيه ، والوزر ما يعتصم به ، ومنه ( كلا لا وزر ) [القيامة : 11] أي : لا منجى ولا ملجأ ، قال القاضي : ولذلك لا يوصف تعالى بأن له وزيرا ، ولا يقال فيه أيضا بأنه وزير ؛ لأن الالتجاء إليه في المشاورة والرأي على هذا الحد لا يصح .
المسألة الثالثة : ( دمرناهم ) أهلكناهم إهلاكا ، فإن قيل : الفاء للتعقيب ، والإهلاك لم يحصل عقيب ذهاب موسى وهارون إليهم ، بل بعد مدة مديدة . قلنا : التعقيب محمول ههنا على الحكم ، لا على الوقوع ، وقيل : إنه تعالى أراد اختصار القصة فذكر حاشيتيها أولها وآخرها ؛ لأنهما المقصود من القصة بطولها . أعني إلزام الحجة ببعثة الرسل واستحقاق التدمير بتكذيبهم .
المسألة الرابعة : قوله تعالى : ( اذهبا إلى القوم الذين كذبوا بآياتنا ) إن حملنا تكذيب الآيات على تكذيب آيات الإلهية فلا إشكال ، وإن حملناه على تكذيب آيات النبوة فاللفظ وإن كان للماضي إلا أن المراد هو المستقبل .