المسألة الثانية : اختلفوا في أنه كيف تمكن إبليس من وسوسة آدم  عليه السلام مع أن إبليس كان خارج الجنة  وآدم  كان في الجنة ، وذكروا فيه وجوها : 
أحدها : قول القصاص  وهو الذي رووه عن  وهب بن منبه اليماني  والسدي  عن  ابن عباس  رضي الله عنهما وغيره : أنه لما أراد إبليس أن يدخل الجنة منعته الخزنة فأتى الحية وهي دابة لها أربع قوائم كأنها البختية ، وهي كأحسن الدواب بعدما عرض نفسه على سائر الحيوانات فما قبله واحد منها فابتلعته الحية وأدخلته الجنة خفية من الخزنة ، فلما دخلت الحية الجنة خرج إبليس من فمها واشتغل بالوسوسة . فلا جرم لعنت الحية وسقطت قوائمها وصارت تمشي على بطنها ، وجعل رزقها في التراب ، وصارت عدوا لبني آدم  ، واعلم أن هذا وأمثاله مما يجب أن لا يلتفت إليه ؛ لأن إبليس لو قدر على الدخول في فم الحية فلم لم يقدر على أن يجعل نفسه حية ثم يدخل الجنة ؛ ولأنه لما فعل ذلك بالحية فلم عوقبت الحية مع أنها ليست بعاقلة ولا مكلفة ؟ 
وثانيها : أن إبليس دخل الجنة في صورة دابة ، وهذا القول أقل فسادا من الأول . 
وثالثها : قال بعض أهل الأصول : إن آدم  وحواء  عليهما السلام لعلهما كانا يخرجان إلى باب الجنة وإبليس كان بقرب الباب ويوسوس إليهما . 
ورابعها : هو قول الحسن    : أن إبليس كان في الأرض وأوصل الوسوسة إليهما في الجنة . قال بعضهم : هذا بعيد ؛ لأن الوسوسة كلام خفي ، والكلام الخفي لا يمكن إيصاله من الأرض إلى السماء ، واختلفوا من وجه آخر وهو أن إبليس هل باشر خطابهما أو يقال : إنه أوصل الوسوسة إليهما على لسان بعض أتباعه   [ ص: 16 ] حجة القول الأول : قوله تعالى : ( وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين    ) [ الأعراف : 21 ] ، وذلك يقتضي المشافهة ، وكذا قوله : ( فدلاهما بغرور    ) [ الأعراف : 22 ] . 
وحجة القول الثاني : أن آدم  وحواء  عليهما السلام كانا يعرفانه ويعرفان ما عنده من الحسد والعداوة ، فيستحيل في العادة أن يقبلا قوله وأن يلتفتا إليه ، فلا بد وأن يكون المباشر للوسوسة من بعض أتباع إبليس . بقي ههنا سؤالان : 
السؤال الأول : أن الله تعالى قد أضاف هذا الإزلال إلى إبليس فلم عاتبهما على ذلك الفعل ؟ قلنا : معنى قوله : ( فأزلهما    ) أنهما عند وسوسته أتيا بذلك الفعل فأضيف ذلك إلى إبليس كما في قوله تعالى : ( فلم يزدهم دعائي إلا فرارا    ) [ نوح : 6 ] فقال تعالى حاكيا عن إبليس : ( وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي    ) [ إبراهيم : 22 ] ، هذا ما قاله المعتزلة    . والتحقيق في هذه الإضافة ما قررناه مرارا أن الإنسان قادر على الفعل والترك ومع التساوي يستحيل أن يصير مصدرا لأحد هذين الأمرين إلا عند انضمام الداعي إليه ، والداعي عبارة في حق العبد عن علم أو ظن أو اعتقاد بكون الفعل مشتملا على مصلحة ، فإذا حصل ذلك العلم أو الظن بسبب منبه نبه عليه كان الفعل مضافا إلى ذلك لما لأجله صار الفاعل بالقوة فاعلا بالفعل ، فلهذا المعنى انضاف الفعل ههنا إلى الوسوسة ، وما أحسن ما قال بعض العارفين : إن زلة آدم  عليه السلام هب أنها كانت بسبب وسوسة إبليس ، فمعصية إبليس حصلت بوسوسة منا ، وهذا ينبهك على أنه ما لم يحصل الداعي لا يحصل الفعل ، وأن الدواعي وإن ترتب بعضها على بعض ، فلا بد من انتهائها إلى ما يخلقه الله تعالى ابتداء وهو الذي صرح به موسى عليه السلام في قوله : ( إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء    ) [ الأعراف : 155 ] . 
السؤال الثاني : كيف كانت تلك الوسوسة  ؟ الجواب : أنها هي التي حكى الله تعالى عنها في قوله : ( ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين    ) [ الأعراف : 20 ] ، فلم يقبلا ذلك منه ، فلما أيس من ذلك عدل إلى اليمين على ما قال : ( وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين    ) [ الأعراف : 21 ] ، فلم يصدقاه أيضا ، والظاهر أنه بعد ذلك عدل إلى شيء آخر وهو أنه شغلهما باستيفاء اللذات المباحة حتى صارا مستغرقين فيه فحصل بسبب استغراقهما فيه نسيان النهي ، فعند ذلك حصل ما حصل ، والله أعلم بحقائق الأمور كيف كانت . 
أما قوله تعالى : ( وقلنا اهبطوا    )  ففيه مسائل : 
المسألة الأولى : من قال : إن جنة آدم  كانت في السماء فسر الهبوط بالنزول من العلو إلى السفل ، ومن قال : إنها كانت في الأرض فسره بالتحول من موضع إلى غيره ، كقوله : ( اهبطوا مصرا    ) [ البقرة : 61 ] . 
المسألة الثانية : اختلفوا في المخاطبين بهذا الخطاب بعد الاتفاق على أن آدم  وحواء  عليهما السلام كانا مخاطبين به وذكروا فيه وجوها : 
الأول : وهو قول الأكثرين ، أن إبليس داخل فيه أيضا ، قالوا : لأن إبليس قد جرى ذكره في قوله : ( فأزلهما الشيطان عنها    ) أي فأزلهما وقلنا لهم اهبطوا . 
				
						
						
