النوع الرابع : ما يتعلق أيضا باحتياج الخلق ، ولكنه حاجة خاصة في وقت خاص
( أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون )
قوله تعالى : ( أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته أإله مع الله تعالى الله عما يشركون )
[ ص: 180 ] اعلم أنه تعالى نبه في هذه الآية على أمرين :
الأول : قوله : ( أمن يهديكم ) والمراد : يهديكم بالنجوم في السماء والعلامات في الأرض إذا جن الليل عليكم مسافرين في البر والبحر .
الثاني : قوله : ( ومن يرسل الرياح ) فإنه سبحانه هو الذي يحرك الرياح فتثير السحاب ثم تسوقه إلى حيث يشاء ، فإن قيل : لا نسلم أنه تعالى هو الذي يحرك الرياح ، فإن الفلاسفة قالت : الرياح إنما تتولد عن الدخان ، وليس الدخان كله هو الجسم الأسود المرتفع مما احترق بالنار ، بل كل جسم أرضي يرتفع بتصعيد الحرارة سواء كانت الحرارة حرارة النار أو حرارة الشمس ، فهو دخان . قالوا : وتولد الرياح من الأدخنة على وجهين :
أحدهما أكثري ، والآخر أقلي . أما الأكثري فهو : أنه إذا صعدت أدخنة كثيرة إلى فوق ، فعند وصولها إلى الطبقة الباردة ، إما أن ينكسر حرها ببرد ذلك الهواء ، أو لا ينكسر ، فإن انكسر فلا محالة يثقل وينزل فيحصل من نزولها تموج الهواء فتحدث الريح ، وإن لم ينكسر حرها ببرد ذلك الهواء ، فلا بد وأن يتصاعد إلى أن يصل إلى كرة النار المتحركة بحركة الفلك ، وحينئذ لا يتمكن من الصعود بسبب حركة النار ، فترجع تلك الأدخنة وتصير ريحا ، لا يقال : لو كان اندفاع هذه الأدخنة بسبب حركة الهواء العالي لما كانت حركتها إلى أسفل ، بل إلى جهة حركة الهواء العالي ؛ لأنا نقول الجواب من وجهين :
أحدهما : أنه ربما أوجبت هيئة صعود تلك الأدخنة وهيئة لحوق المادة بها أن يتحرك إلى خلاف جهة المتحرك المانع ، كالسهم يصيب جسما متحركا ، فيعطفه تارة إلى جهته إن كان الحابس كما يقدر على صرف المتحرك عن متوجهه يقدر أيضا على صرفه إلى جهة حركة نفسه ، وتارة إلى خلاف تلك الجهة إذا كان المفارق يقدر على الحبس ولا يقدر على الصرف .
الثاني : أنه ربما كان صعود بعض الأدخنة من تحت مانعا للأدخنة النازلة من فوق إلى أن يتسفل ذلك ؛ فلأجل هذا السبب يتحرك إلى سائر الجوانب ، واعلم أن لأهل الإسلام ههنا مقامين :
الأول : أن يقيم الدلالة على فساد هذه العلة ، وبيانه من وجهين :
الأول : أن الأجزاء الدخانية أرضية فهي أثقل من الأجزاء البخارية المائية ، ثم إن البخار لما يبرد ينزل على الخط المستقيم مطرا ، فالدخان لما برد فلماذا لم ينزل على الخط المستقيم بل ذهب يمنة ويسرة ؟
الثاني : أن حركة تلك الأجزاء إلى أسفل طبيعية وحركتها يمنة ويسرة عرضية ، والطبيعية أقوى من العرضية ، وإذا لم يكن أقوى فلا أقل من المساواة ، ثم إن الريح عند حركتها يمنة ويسرة ربما تقوى على قلع الأشجار ورمي الجدار بل الجبال ، فتلك الأجزاء الدخانية عندما تحركت حركتها الطبيعية التي لها وهي الحركة إلى السفل وجب أن تهدم السقف ، ولكنا نرى الغبار الكثير ينزل من الهواء ويسقط على السقف ، ولا يحس بنزوله فضلا عن أن يهدمه ، فثبت فساد ما ذكروه .
المقام الثاني : هب أن الأمر كما ذكروه ولكن الأسباب الفاعلية والقابلية لها مخلوقة لله سبحانه وتعالى ، فإنه لولا الشمس وتأثيرها في تصعيد الأبخرة والأدخنة ولولا طبقات الهواء ، وإلا لما حدثت هذه الأمور ، ومعلوم أن من وضع أسبابا فأدته إلى منافع عجيبة وحكم بالغة ، فذلك الواضع هو الذي فعل تلك المنافع ، فعلى جميع الأحوال لا بد من شهادة هذه الأمور على مدبر حكيم واجب لذاته ، قطعا لسلسلة الحاجات .