المسألة الرابعة : احتج بهذه الآية من طعن في عليهم السلام من وجوه : عصمة الأنبياء
أحدها : أن ذلك القبطي إما أن يقال : إنه كان مستحق القتل أو لم يكن كذلك ، فإن كان الأول ، فلم قال : ( هذا من عمل الشيطان ) ولم قال : ( رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له ) ولم قال في سورة أخرى ( فعلتها إذا وأنا من الضالين ) ( الشعراء : 20 ) ؟ وإن كان الثاني -وهو أن ذلك القبطي لم يكن مستحق القتل- كان قتله معصية وذنبا .
وثانيها : أن قوله : ( وهذا من عدوه ) يدل على أنه كان كافرا حربيا فكان دمه مباحا فلم استغفر عنه ، والاستغفار عن الفعل المباح غير جائز ؛ لأنه يوهم في المباح كونه حراما ؟
وثالثها : أن الوكز لا يقصد به القتل ظاهرا ، فكان ذلك القتل قتل خطأ ، فلم استغفر منه ؟
والجواب عن الأول : لم لا يجوز أن يقال : إنه كان لكفره مباح الدم ؟
أما قوله : ( هذا من عمل الشيطان ) ففيه وجوه :
أحدها : لعل الله تعالى ، وإن أباح قتل الكافر إلا أنه قال : [ ص: 201 ] الأولى تأخير قتلهم إلى زمان آخر ، فلما قتل فقد ترك ذلك المندوب ، فقوله : ( هذا من عمل الشيطان ) معناه : إقدامي على ترك المندوب من عمل الشيطان .
وثانيها : أن قوله ( هذا ) إشارة إلى عمل المقتول لا إلى عمل نفسه ، فقوله : ( هذا من عمل الشيطان ) أي عمل هذا المقتول من عمل الشيطان ، المراد منه بيان كونه مخالفا لله تعالى مستحقا للقتل .
وثالثها : أن يكون قوله ( هذا ) إشارة إلى المقتول ، يعني : أنه من جند الشيطان وحزبه ، يقال : فلان من عمل الشيطان ، أي من أحزابه .
أما قوله : ( رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي ) فعلى نهج قول آدم عليه السلام : ( ربنا ظلمنا أنفسنا ) ( الأعراف : 23 ) والمراد أحد وجهين : إما على سبيل ، وإن لم يكن هناك ذنب قط ، أو من حيث حرم نفسه الثواب بترك المندوب . الانقطاع إلى الله تعالى والاعتراف بالتقصير عن القيام بحقوقه
أما قوله : ( فاغفر لي ) أي فاغفر لي ترك هذا المندوب ، وفيه وجه آخر ، وهو أن يكون المراد : رب إني ظلمت نفسي حيث قتلت هذا الملعون ، فإن فرعون لو عرف ذلك لقتلني به ( فاغفر لي ) أي فاستره علي ولا توصل خبره إلى فرعون ( فغفر له ) أي ستره عن الوصول إلى فرعون ، ويدل على هذا التأويل أنه على عقبه ، قال : ( رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين ) ولو كانت إعانة المؤمن ههنا سببا للمعصية لما قال ذلك .
وأما قوله : ( فعلتها إذا وأنا من الضالين ) فلم يقل : إني صرت بذلك ضالا ، ولكن فرعون لما ادعى أنه كان كافرا في حال القتل نفى عن نفسه كونه كافرا في ذلك الوقت ، واعترف بأنه كان ضالا أي متحيرا لا يدري ما يجب عليه أن يفعله وما يدبر به في ذلك .
أما قوله : إن كان كافرا حربيا ، فلم استغفر عن قتله ؟ قلنا : كون الكافر مباح الدم أمر يختلف باختلاف الشرائع ، فلعل قتلهم كان حراما في ذلك الوقت ، أو إن كان مباحا لكن الأولى تركه على ما قررنا .
قوله : ذلك القتل كان قتل خطأ ، قلنا : لا نسلم فلعل الرجل كان ضعيفا وموسى عليه السلام كان في نهاية الشدة ، فوكزه كان قاتلا قطعا . ثم إن سلمنا ذلك ولكن لعله عليه السلام كان يمكنه أن يخلص الإسرائيلي من يده بدون ذلك الوكز الذي كان الأولى تركه ، فلهذا أقدم على الاستغفار ، على أنا وإن سلمنا دلالة هذه الآية على صدور المعصية لكنا بينا أنه لا دليل البتة على أنه كان رسولا في ذلك الوقت ، فيكون ذلك صادرا منه قبل النبوة ، وذلك لا نزاع فيه .