أما قوله : ( ياموسى أقبل ولا تخف إنك من الآمنين وأن ألق عصاك فلما رآها تهتز كأنها جان ولى مدبرا ولم يعقب ) فقد تقدم تفسير كل ذلك ، وقوله ( كأنها جان ) صريح في أنه تعالى شبهها بالجان ، ولم يقل : إنه في نفسه جان ، فلا يكون هذا مناقضا لكونه ثعبانا ، بل شبهها بالجان من حيث الاهتزاز والحركة ، لا من حيث المقدار ، وقد تقدم الكلام في خوفه ، ومعنى ( ولم يعقب ) لم يرجع ، يقال : عقب المقاتل إذا كر بعد الفر ، وقال وهب : إنها لم تدع شجرة ولا صخرة إلا ابتلعتها حتى سمع موسى عليه السلام صرير أسنانها ، وسمع قعقعة الصخر في جوفها ، فحينئذ ولى .
واختلفوا في العصا على وجوه :
أحدها : قالوا إن شعيبا كانت عنده عصي الأنبياء عليهم السلام ، فقال لموسى بالليل : إذا دخلت ذلك البيت فخذ عصا من تلك العصي ، فأخذ عصا هبط بها آدم عليه السلام من الجنة ، ولم تزل الأنبياء تتوارثها حتى وقعت إلى شعيب عليه السلام ، فقال : أرني العصا فلمسها ، وكان مكفوفا ، فضن بها ، فقال : خذ غيرها فما وقع في يده إلا هي سبع مرات ، فعلم أن له معها شأنا . وروي أيضا أن شعيبا عليه السلام أمر ابنته أن تأتي بعصا لأجل موسى عليه السلام ، فدخلت البيت وأخذت العصا وأتته بها ، فلما رآها الشيخ ، قال : ائتيه بغيرها فألقتها ، وأرادت أن تأخذ غيرها ، فلم يقع في يدها غيرها . فلما رأى الشيخ ذلك رضي به ثم ندم بعد ذلك ، وخرج يطلب موسى عليه السلام ، فلما لقيه ، قال : أعطني العصا ، قال موسى : هي عصاي فأبى أن يعطيه إياها فاختصما ، ثم توافقا على أن يجعلا بينهما أول رجل يلقاهما ، فأتاهما ملك يمشي ، فقضى بينهما ، فقال : ضعوها على الأرض ، فمن حملها فهي له ، فعالجها الشيخ : فلم [ ص: 211 ] يطق ، وأخذها موسى عليه السلام بسهولة ، فتركها الشيخ له ورعى له عشر سنين .
وثانيها : روى ابن صالح عن قال : كان في دار ابن عباس بيرون ابن أخي شعيب بيت لا يدخله إلا بيرون وابنته التي زوجها من موسى عليه السلام ، وأنها كانت تكنسه وتنظفه ، وكان في ذلك البيت ثلاث عشرة عصا ، وكان لبيرون أحد عشر ولدا من الذكور ، فكلما أدرك منهم ولد أمره بدخول البيت وإخراج عصا من تلك العصي ، فرجع موسى ذات يوم إلى منزله ، فلم يجد أهله واحتاج إلى عصا لرعيه ، فدخل ذلك البيت وأخذ عصا من تلك العصي ، وخرج بها ، فلما علمت المرأة ذلك انطلقت إلى أبيها ، وأخبرته بذلك فسر بذلك بيرون ، وقال لها : إن زوجك هذا لنبي ، وإن له مع هذه العصا لشأنا .
وثالثها : في بعض الأخبار أن موسى عليه السلام لما عقد العقد مع شعيب وأصبح من الغد وأراد الرعي . قال له شعيب عليه السلام : اذهب بهذه الأغنام ، فإذا بلغت مفرق الطريق ، فخذ على يسارك ، ولا تأخذ على يمينك ، وإن كان الكلأ بها أكثر ، فإن بها تنينا عظيما ، فأخشى عليك وعلى الأغنام منه ، فذهب موسى بالأغنام ، فلما بلغ مفرق الطريق أخذت الأغنام ذات اليمين ، فاجتهد موسى على أن يردها ، فلم يقدر ، فسار على أثرها فرأى عشبا كثيرا ، ثم إن موسى عليه السلام نام والأغنام ترعى وإذا بالتنين قد جاء ، فقامت عصا موسى عليه السلام فقاتلته حتى قتلته ، وعادت إلى جنب موسى وهي دامية ، فلما استيقظ موسى عليه السلام رأى العصا دامية ، والتنين مقتولا فارتاح لذلك ، وعلم أن لله تعالى في تلك العصا قدرة وآية ، وعاد إلى شعيب عليه السلام وكان ضريرا فمس الأغنام ، فإذا هي أحسن حالا مما كانت ، فسأله عن ذلك ، فأخبره موسى عليه السلام بالقصة ففرح بذلك ، وعلم أن لموسى عليه السلام وعصاه شأنا ، فأراد أن يجازي موسى عليه السلام على حسن رعيه إكراما وصلة لابنته ، فقال : إني وهبت لك من السخال التي تضعها أغنامي في هذه السنة كل أبلق وبلقاء ، فأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام أن اضرب بعصاك الماء الذي تسقي الغنم منه ، ففعل ثم سقى الأغنام منه ، فما أخطت واحدة منها إلا وضعت حملها ما بين أبلق وبلقاء ، فعلم شعيب أن ذلك رزق ساقه الله تعالى إلى موسى عليه السلام وامرأته فوفى له شرطه .
ورابعها : قال بعضهم : تلك العصا هي عصا آدم عليه السلام ، وإن جبريل عليه السلام أخذ تلك العصا بعد موت آدم عليه السلام ، فكانت معه حتى لقي بها موسى عليه السلام ربه ليلا .
وخامسها : قال الحسن : ما كانت إلا عصا من الشجر اعترضها اعتراضا أي أخذها من عرض الشجر ، يقال : اعترض إذا لم يتخير . وعن الكلبي : الشجرة التي منها نودي شجرة العوسج ، ومنها كانت عصاه ولا مطمع في ترجيح بعض هذه الوجوه على بعض ؛ لأنه ليس في القرآن ما يدل عليها والأخبار متعارضة ، والله أعلم بها .