( فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون )
ثم قال : ( فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون )
[ ص: 46 ] لما أتى إبراهيم عليه السلام ببيان الأصول الثلاثة ، وأقام البرهان عليه ، بقي الأمر من جانبهم إما الإجابة أو الإتيان بما يصلح أن يكون جوابه فلم يأتوا إلا بقولهم ( اقتلوه أو حرقوه ) وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : كيف سمى قولهم ( اقتلوه ) جوابا مع أنه ليس بجواب ؟ فنقول : الجواب عنه من وجهين :
أحدهما : أنه خرج منهم مخرج كلام المتكبر كما يقول الملك لرسول خصمه : جوابكم السيف ، مع أن السيف ليس بجواب ، وإنما معناه لا أقابله بالجواب ، وإنما أقابله بالسيف فكذلك قالوا لا تجيبوا عن براهينه واقتلوه أو حرقوه .
الثاني : هو أن الله أراد بيان ضلالتهم وهو أنهم ذكروا في معرض الجواب هذا مع أنه ليس بجواب ، فتبين أنهم لم يكن لهم جواب أصلا ، وذلك لأن من لا يجيب غيره ويسكت ، لا يعلم أنه لا يقدر على الجواب لجواز أن يكون سكوته لعدم الالتفات ، أما إذا أجاب بجواب فاسد ، علم أنه قصد الجواب وما قدر عليه .
المسألة الثانية : القائلون الذين قالوا : اقتلوه هم قومه والمأمورون بقولهم اقتلوه أيضا هم ، فيكون الآمر نفس المأمور ؟ فنقول الجواب عنه من وجهين :
أحدهما : أن كل واحد منهم قال لمن عداه : اقتلوه ، فحصل الأمر من كل واحد وصار المأمور كل واحد ولا اتحاد ، لأن كل واحد أمر غيره .
وثانيهما : هو أن الجواب لا يكون إلا من الأكابر والرؤساء ، فإذا قال أعيان بلد كلاما يقال : اتفق أهل البلدة على هذا ولا يلتفت إلى عدم قول العبيد والأراذل ، فكان جواب قومه وهم الرؤساء أن قالوا لأتباعهم وأعوانهم : اقتلوه ، لأن الجواب لا يباشره إلا الأكابر ، والقتل لا يباشره إلا الأتباع .
المسألة الثالثة : أو يذكر بين أمرين الثاني منهما ينفك عن الأول كما يقال : زوج أو فرد ، ويقال : هذا إنسان أو حيوان ، يعني إن لم يكن إنسانا فهو حيوان ، ولا يصح أن يقال : هذا حيوان أو إنسان ، إذ يفهم منه أنه يقول هو حيوان فإن لم يكن حيوانا فهو إنسان وهو محال ، لكن التحريق مشتمل على القتل فقوله اقتلوه أو حرقوه كقول القائل : حيوان أو إنسان ، الجواب عنه : من وجهين :
أحدهما : أن الاستعمال على خلاف ما ذكر شائع ويكون ( أو ) مستعملا في موضع بل ، كما يقول القائل : أعطيته دينارا أو دينارين ، وكما يقول القائل : أعطه دينارا بل دينارين ، قال الله تعالى : ( قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ) ( المزمل :2 - 3 - 4) فكذلك ههنا اقتلوه أو زيدوا على القتل وحرقوه .
الجواب الثاني : هو أنا نسلم ما ذكرتم والأمر هنا كذلك ، لأن التحريق فعل مفض إلى القتل وقد يتخلف عنه القتل فإن من ألقى غيره في النار حتى احترق جلده بأسره وأخرج منها حيا يصح أن يقال : احترق فلان وأحرقه فلان وما مات ، فكذلك ههنا قالوا اقتلوه أو لا تعجلوا قتله وعذبوه بالنار ، وإن ترك مقالته فخلوا سبيله وإن أصر فخلوا في النار مقيله .