( وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين )
[ ص: 57 ] ثم قال تعالى : ( وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال ياقوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين ) لما أتم الحكاية الثانية على وجه الاختصار لفائدة الاعتبار شرع في الثالثة وقال : ( وإلى مدين أخاهم ) واختلف المفسرون في مدين ، فقال بعضهم إنه اسم رجل في الأصل وحصل له ذرية فاشتهر في القبيلة كتميم وقيس وغيرهما ، وقال بعضهم : اسم ماء نسب القوم إليه ، واشتهر في القوم ، والأول كأنه أصح وذلك لأن الله أضاف الماء إلى مدين حيث قال : ( ولما ورد ماء مدين ) (القصص : 23 ) ولو كان اسما للماء لكانت الإضافة غير صحيحة أو غير حقيقة ، والأصل في الإضافة التغاير حقيقة ، وقوله : ( أخاهم ) قيل لأن شعيبا كان منهم نسبا ، وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : قال الله تعالى في نوح : ( ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه ) (هود : 25 ) قدم نوحا في الذكر وعرف القوم بالإضافة إليه وكذلك في إبراهيم ولوط ، وههنا ذكر القوم أولا وأضاف إليهم أخاهم شعيبا ، فنقول : الأصل في جميع المواضع أن يذكر القوم ثم يذكر رسولهم لأن المرسل لا يبعث رسولا إلى غير معين ، وإنما يحصل قوم أو شخص يحتاجون إلى إنباء من المرسل فيرسل إليهم من يختاره ، غير أن قوم نوح وإبراهيم ولوط لم يكن لهم اسم خاص ولا نسبة مخصوصة يعرفون بها ، فعرفوا بالنبي فقيل : قوم نوح وقوم لوط ، وأما قوم شعيب وهود وصالح فكان لهم نسب معلوم اشتهروا به عند الناس فجرى الكلام على أصله وقال الله : ( وإلى مدين أخاهم شعيبا ) وقال : ( وإلى عاد أخاهم هودا ) (الأعراف : 65 ) .
المسألة الثانية : لم يذكر عن لوط أنه أمر قومه بالعبادة والتوحيد ، وذكر عن شعيب ذلك ؟ قلنا قد ذكرنا أن لوطا كان له قوم وهو كان من قوم إبراهيم وفي زمانه ، وإبراهيم سبقه بذلك واجتهد فيه حتى اشتهر الأمر بالتوحيد عند الخلق من إبراهيم فلم يذكره عن لوط وإنما ذكر منه ما اختص به من المنع عن الفاحشة وغيرها ، وإن كان هو أيضا يأمر بالتوحيد ، إذ ما من رسول إلا ويكون أكثر كلامه في التوحيد ، وأما شعيب فكان بعد انقراض القوم فكان هو أصلا أيضا في التوحيد فبدأ به وقال : ( اعبدوا الله ) .
المسألة الثالثة : ، والأمر بالعبادة لا يفيده لأن من يعبد الله ويعبد غيره فهو مشرك فكيف اقتصر على قوله : ( الإيمان لا يتم إلا بالتوحيد اعبدوا الله ) ؟ فنقول : هذا الأمر يفيد التوحيد ، وذلك لأن من يرى غيره يخدم زيدا وعمرو هناك وهو أكبر أو هو سيد زيد ، فإذا قال له اخدم عمرا يفهم منه أنه يأمره بصرف الخدمة إليه ، وكذا إذا كان لواحد دينار واحد ، وهو يريد أن يعطيه زيدا ، فإذا قيل له : أعطه عمرا يفهم منه لا تعطه زيدا ، فنقول هم كانوا مشتغلين بعبادة غير الله ، والله مالك ذلك الغير فقال لهم شعيب : ( اعبدوا الله ) ففهموا منه ترك عبادة غيره ، أو نقول لكل واحد نفس واحدة ويريد وضعها في عبادة غير الله فقال لهم شعيب ضعوها في موضعها وهو عبادة الله ففهم منه التوحيد ، ثم قال : ( وارجوا اليوم الآخر ) قال : معناه افعلوا ما ترجون به العاقبة إذ قد يقول القائل لغيره كن عاقلا ، ويكون معناه افعل فعل من يكون عاقلا ، وقوله : ( الزمخشري وارجوا اليوم الآخر ) فيه مسائل :
المسألة الأولى : هذا يدل على صحة مذهبنا ، فإن عندنا لأن من عبد الله طول عمره يثيبه الله تفضلا ولا يجب عليه ذلك ، ومن [ ص: 58 ] شكر المنعم على نعم سبقت لا يلزم المنعم أن يزيده ، وإن زاده يكون إحسانا منه إليه وإنعاما عليه ، فنقول قوله : ( العابد قد وصل إليه من النعم ما لو زاد على ما أتى به لما خرج عن عهدة الشكر وارجوا اليوم ) بعد قوله : ( اعبدوا الله ) يدل على التفضل لا على الوجوب فإن الفضل يرجى ، والواجب من العادل يقطع به .
المسألة الثانية : قال : ( وارجوا اليوم الآخر ) ولم يقل وخافوه مع أن ذلك اليوم مخوف عند الكل ، وغير مرجو عند كثير من الناس لفسقه وفجوره ومحبته الدنيا ولا يرجوه إلا قليل من عباده ، فنقول لما ذكر التوحيد بطريق الإثبات وقال : ( اعبدوا ) ولم يذكره بطريق النفي وما قال : ولا تعبدوا غيره قال بلفظ الرجاء لأن ، وفيه وجه آخر وهو أن الله حكى في حكاية عبادة الله يرجى منها الخير في الدارين إبراهيم أنه قال إنكم اتخذتم الأوثان مودة بينكم في الحياة الدنيا ، وأما في الآخرة فتكفرون بها ، وقال هاهنا : لا تكونوا كالذين سبق ذكرهم لم يرجوا اليوم الآخر ، فاقتصروا على مودة الحياة الدنيا ، وارجوا اليوم الآخر واعملوا له ، ثم قال : ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) يمكن أن يقال نصب مفسدين على المصدر كما يقال قم قائما أي : قياما ويكون قوله : ( ولا تعثوا في الأرض مفسدين ) كقول القائل : اجلس قعودا لأن العيث والفساد بمعنى ، وجمع الأوامر والنواهي في قوله : ( اعبدوا الله ) وقوله : ( ولا تعثوا ) ثم إن قومه كذبوه بعدما بلغ وبين ، فحكى الله عنهم ذلك بقوله : ( فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين ) وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : ما حكي عن شعيب أمر ونهي والأمر لا يصدق ولا يكذب ، فإن من قال لغيره قم لا يصح أن يقول له : كذبت ، فنقول شعيب يقول : الله واحد فاعبدوه ، والحشر كائن فارجوه ، والفساد محرم فلا تقربوه ، وهذه الأشياء فيها إخبارات فكذبوه فيما أخبرهم به . كان
المسألة الثانية : قال هاهنا وفي الأعراف : ( فأخذتهم الرجفة ) وقال في هود : ( فأخذتهم الرجفة ) والحكاية واحدة ، نقول لا تعارض بينهما فإن ، إما لرجفة الأرض إذ قيل : إن الصيحة كانت سببا للرجفة جبريل صاح فتزلزلت الأرض من صيحته ، وإما لرجفة الأفئدة فإن قلوبهم ارتجفت منها ، والإضافة إلى السبب لا تنافي الإضافة إلى سبب السبب ، إذ يصح أن يقال : روي فقوي ، وأن يقال شرب فقوي في صورة واحدة .
المسألة الثالثة : حيث قال : ( وأخذ الذين ظلموا الصيحة ) قال : ( في ديارهم ) وحيث قال : ( فأخذتهم الرجفة ) قال : ( في دارهم ) فنقول : المراد من الدار هو الديار ، والإضافة إلى الجمع يجوز أن تكون بلفظ الجمع ، وأن تكون بلفظ الواحد إذا أمن الالتباس ، وإنما اختلف اللفظ للطيفة ، وهي أن الرجفة هائلة في نفسها فلم يحتج إلى مهول ، وأما الصيحة فغير هائلة في نفسها لكن تلك الصيحة لما كانت عظيمة حتى أحدثت الزلزلة في الأرض ذكر الديار بلفظ الجمع ، حتى تعلم هيبتها ، والرجفة بمعنى الزلزلة عظيمة عند كل أحد فلم يحتج إلى معظم لأمرها ، وقيل إن الصيحة كانت أعم حيث عمت الأرض والجو ، والزلزلة لم تكن إلا في الأرض فذكر الديار هناك .
غير أن هذا ضعيف لأن الدار والديار موضع الجثوم لا موضع الصيحة والرجفة ، فهم ما أصبحوا جاثمين إلا في ديارهم .