( وما يعقلها إلا العالمون خلق الله السماوات والأرض بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين ) .
ثم قال تعالى : ( وما يعقلها إلا العالمون ) .
يعني : حقيقتها . وكون الأمر كذلك لا يعلمه إلا من حصل له العلم ببطلان ما سوى الله ، وفساد عبادة ما عداه ، وفيه معنى حكمي وهو أن ، وذلك لأن العاقل إذا عرض عليه أمر ظاهر أدركه كما هو بكنهه لكون المدرك ظاهرا وكون المدرك عاقلا ، ولا يحتاج إلى كونه عالما بأشياء قبله ، وأما الدقيق فيحتاج إلى علم سابق فلا بد من عالم ، ثم إنه قد يكون دقيقا في غاية الدقة فيدركه ولا يدركه بتمامه ويعقله إذا كان عالما . إذا علم هذا فقوله : ( العلم الحدسي يعلمه العاقل والعلم الفكري الدقيق يعقله العالم وما يعقلها إلا العالمون ) يعني هو . ضرب للناس أمثالا ، وحقيقتها وما فيها من الفوائد بأسرها فلا يدركها إلا العلماء
ثم إنه تعالى لما أمر الخلق بالإيمان وأظهر الحق بالبرهان ولم يأت الكفار بما أمرهم به وقص عليهم قصصا فيها عبر ، وأنذرهم على كفرهم بإهلاك من غبر ، وبين ضعف دليلهم بالتمثيل ، ولم يهتدوا بذلك إلى سواء السبيل ، وحصل يأس الناس عنهم سلى المؤمنين بقوله :
( خلق الله السماوات والأرض بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين )
يعني : إن لم يؤمنوا هم لا يورث كفرهم شكا في صحة دينكم ، ولا يؤثر شكهم في قوة يقينكم ، فإن خلق الله السماوات والأرض بالحق للمؤمنين بيان ظاهر ، وبرهان باهر ، وإن لم يؤمن به على وجه الأرض كافر ، وفي الآية مسألة يتبين بها تفسير الآية ، وهي أن الله تعالى كيف خص الآية في خلق السماوات والأرض بالمؤمنين مع أن في خلقهما آية لكل عاقل كما قال الله تعالى : ( ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله ) (لقمان : 25 ) وقال الله تعالى : ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ) إلى أن قال ( لآيات لقوم يعقلون ) (البقرة : 164 ) فنقول لكل عاقل ، وخلقهما بالحق آية للمؤمنين فحسب ، وبيانه من حيث النقل والعقل ، أما النقل فقوله تعالى : ( خلق السماوات والأرض آية ما خلقناهما إلا بالحق ولكن ) [ ص: 63 ] ( أكثرهم لا يعلمون ) [الدخان : 39] أخرج أكثر الناس عن العلم بكون خلقهما بالحق مع أنه أثبت علم الكل بأنه خلقهما حيث قال : ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار ) وأما العقل فهو أن العاقل أول ما ينظر إلى خلق السماوات والأرض ويعلم أن لهما خالقا وهو الله ثم من يهديه الله لا يقطع النظر عنهما عند مجرد ذلك ، بل يقول إنه خلقهما متقنا محكما وهو المراد بقوله ( بالحق ) ، لأن ما لا يكون على وجه الإحكام يفسد ويبطل فيكون باطلا ، وإذا علم أنه خلقهما متقنا يقول إنه قادر كامل حيث خلق ، وعالم علمه شامل حيث أتقن فيقول لا يعزب عن علمه أجزاء الموجودات في الأرض ولا في السماوات ولا يعجز عن جمعها كما جمع أجزاء الكائنات والمبدعات ، فيجوز بعث من في القبور وبعثة الرسول ، ويعلم وحدانية الله لأنه لو كان أكثر من واحد لفسدتا ولبطلتا وهما بالحق موجودان فيحصل له الإيمان بتمامه ، من خلق ما خلقه على أحسن نظامه