[ ص: 158 ] ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون )
ثم قال تعالى : ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون )
يعني مما تقر العين عنده ولا تلتفت إلى غيره ، يقال : إن هذا لا يدخل في عيني ، يعني عيني تطلع إلى غيره ، فإذا لم يبق تطلع للعين إلى شيء آخر لم يبق للعين مسرح إلى غيره فتقر جزاء بحكم الوعد ، وهذا فيه لطيفة ، وهي أن من العبد شيئا وهو العمل الصالح ، ومن الله أشياء سابقة من الخلق والرزق وغيرهما وأشياء لاحقة من الثواب والإكرام ، فلله تعالى أن يقول : جزاء الإحسان إحسان ، وأنا أحسنت أولا والعبد أحسن في مقابلته ، فالثواب تفضل ومنحة من غير عوض ، وله أن يقول : جعلت الأول تفضلا لا أطلب عليه جزاء ، فإذا أتى العبد بالعمل الصالح فليس عليه شيء لأني أبرأته مما عليه من النعم ، فكان هو آتيا بالحسنة ابتداء ، وجزاء الإحسان إحسان ، فأجعل الثواب جزاء ، كلاهما جائز ، لكن غاية الكرم أن يجعل الأول هبة ويجعل الثاني مقابلا وعوضا ; لأن العبد ضعيف لو قيل له بأن فعلك جزاء فلا تستحق جزاء ، وإنما الله يتفضل ، يثق ولكن لا يطمئن قلبه .
وإذا قيل له : الأول غير محسوب عليك والذي أتيت به أنت به باد ، ولك عليه استحقاق ثواب يثق ويطمئن ، ثم إذا عرف أن هذا من فضل الله فالواجب من جانب العبد أن يقول : فعلي جزاء نعم الله السابقة ولا أستحق به جزاء ، فإذا أثابه الله تعالى يقول : الذي أتيت به كان جزاء ، وهذا ابتداء إحسان من الله تعالى يستحق حمدا وشكرا فيأتي بحسنة ، فيقول الله : إني أحسنت إليه جزاء فعله الأول وما فعلت أولا لا أطلب له جزاء فيجازيه ثالثا فيشكر العبد ثالثا فيجازيه رابعا ، وعلى هذا لا تنقطع المعاملة بين العبد والرب ، ومثله في الشاهد اثنان تحابا فأهدى أحدهما إلى الآخر هدية ونسيها ، والمهدى إليه يتذكرها فأهدى إلى المهدي عوضا فرآه المهدي الأول ابتداء لنسيانه ما أهداه إليه فجازاه بهدية فقال المحب الآخر : ما أهديته كان جزاء لهديته السابقة ، وهذه هدية ما عوضتها فيعوض ويعوض عنه المحب الآخر ، ويتسلسل الأمر بينهما ولا ينقطع التهادي والتحاب ، بخلاف من أرسل إلى واحد هدية وهو يتذكرها ، فإذا بعث إليه المهدى إليه عوضا يقول المهدي : هذا عوض ما أهديت إليه فيسكت ويترك الإهداء فينقطع .
واعلم أن بل العبد يعبد ربه في الجنة أكثر مما يعبده في الدنيا ، وكيف لا وقد صار حاله مثل حال الملائكة الذين قال في حقهم : ( التكاليف يوم القيامة وإن ارتفعت لكن الذكر والشكر والعبادة لا ترتفع يسبحون الليل والنهار لا يفترون ) [ الأنبياء : 20 ] غاية ما في الباب أن العبادة ليست عليهم بتكليف بل هي بمقتضى الطبع ، ومن جملة الأسباب الموجبة لدوام نعيم الجنة هذا ، وكيف لا وخدمة الملوك لذة وشرف فلا تترك ، وإن قرب العبد منه بل تزداد لذتها .