( يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور    ) 
ثم قال تعالى : ( يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب  وقدور راسيات اعملوا آل داود شكرا وقليل من عبادي الشكور    ) . 
المحاريب إشارة إلى الأبنية الرفيعة ولهذا قال تعالى : ( إذ تسوروا المحراب    ) [ ص : 21 ] والتماثيل ما يكون فيها من النقوش ، ثم لما ذكر البناء الذي هو المسكن بين ما يكون في المسكن من ماعون الأكل فقال : ( وجفان كالجواب    ) جمع جابية وهي الحوض الكبير الذي يجبي الماء أي يجمعه وقيل : كان يجتمع على جفنة واحدة ألف نفس ( وقدور راسيات    ) ثابتات لا تنقل لكبرها ، وإنما يغرف منها في تلك الجفان ، وفيه مسائل : 
المسألة الأولى : قدم المحاريب على التماثيل لأن النقوش تكون في الأبنية وقدم " الجفان " في الذكر على " القدور " مع أن القدور آلة الطبخ والجفان آلة الأكل ، والطبخ قبل الأكل ، فنقول : لما بين الأبنية الملكية أراد بيان عظمة السماط الذي يمد في تلك الدور ، وأشار إلى الجفان لأنها تكون فيه ، وأما القدور فلا تكون فيه ، ولا تحضر هناك ، ولهذا قال : ( راسيات    ) أي غير منقولات ، ثم لما بين حال الجفان العظيمة ، كان يقع في النفس أن الطعام الذي يكون فيها في أي شيء يطبخ ، فأشار إلى القدور المناسبة للجفان . 
المسألة الثانية : ذكر في حق داود  اشتغاله بآلة الحرب ، وفي حق سليمان  بحالة السلم وهي المساكن والمآكل وذلك لأن سليمان  كان ولد داود  ، وداود  قتل جالوت  والملوك الجبابرة ، واستوى داود  على الملك ، فكان سليمان  كولد ملك يكون أبوه قد سوى على ابنه الملك وجمع له المال فهو يفرقه على جنوده ؛ ولأن سليمان  لم يقدر أحد عليه في ظنه فتركوا الحرب معه وإن حاربه أحد كان زمان الحرب يسيرا لإدراكه إياه بالريح فكان في زمانه العظمة بالإطعام والإنعام . 
المسألة الثالثة : لما قال عقيب قوله تعالى : ( أن اعمل سابغات    ) اعملوا صالحا ، قال عقيب ما يعمله الجن    : ( اعملوا آل داود شكرا    ) إشارة إلى ما ذكرنا أن هذه الأشياء حالية لا ينبغي أن يجعل الإنسان نفسه مستغرقة فيها وإنما الواجب الذي ينبغي أن يكثر منه هو العمل الصالح  الذي يكون شكرا ، وفيه إشارة إلى عدم الالتفات إلى هذه الأشياء ، وقلة الاشتغال بها كما في قوله : ( وقدر في السرد    ) أي اجعله بقدر الحاجة . 
المسألة الرابعة : انتصاب شكرا يحتمل ثلاثة أوجه : 
أحدها : أن يكون مفعولا له كقول القائل جئتك طمعا وعبدت الله رجاء غفرانه . 
وثانيها : أن يكون مصدرا كقول القائل : شكرت الله شكرا ويكون المصدر من غير لفظ الفعل كقول القائل : جلست قعودا ، وذلك لأن العمل شكر فقوله : ( اعملوا    ) يقوم مقام قوله :   [ ص: 216 ]   (اشكروا) . 
وثالثها : أن يكون مفعولا به كقولك : اضرب زيدا كما قال تعالى : ( واعملوا صالحا    ) لأن الشكر صالح . 
المسألة الخامسة : قوله : ( وقليل من عبادي الشكور    ) إشارة إلى أن الله خفف الأمر على عباده ، وذلك لأنه لما قال : ( اعملوا آل داود شكرا    ) فهم منه أن الشكر واجب لكن شكر نعمه كما ينبغي لا يمكن ؛ لأن الشكر بالتوفيق وهو نعمة تحتاج إلى شكر آخر وهو بتوفيق آخر ، فدائما تكون نعمة الله بعد الشكر خالية عن الشكر ، فقال تعالى : إن كنتم لا تقدرون على الشكر التام فليس عليكم في ذلك حرج ، فإن عبادي قليل منهم الشكور  ، ويقوي قولنا أنه تعالى أدخل الكل في قوله : ( عبادي    ) مع الإضافة إلى نفسه ، وعبادي بلفظ الإضافة إلى نفس المتكلم لم ترد في القرآن إلا في حق الناجين ، كقوله تعالى : ( ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله    ) [ الزمر : 53 ] وقوله : ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان    ) [الحجر : 42 ] فإن قيل على ما ذكرتم شكر الله بتمامه لا يمكن ، وقوله : ( وقليل    ) يدل على أن في عباده من هو شاكر لأنعمه ، نقول الشكر بقدر الطاقة البشرية  هو الواقع وقليل فاعله ، وأما الشكر الذي يناسب نعم الله فلا قدرة عليه ، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، أو نقول : الشاكر التام ليس إلا من رضي الله عنه ، وقال له : يا عبدي ما أتيت به من الشكر القليل قبلته منك وكتبت لك أنك شاكر لأنعمي بأسرها ، وهذا القبول نعمة عظيمة لا أكلفك شكرها . 
				
						
						
