( قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد وقد كفروا به من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب ) [ ص: 235 ]
ثم قال تعالى : ( قل إن ضللت فإنما أضل على نفسي وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي إنه سميع قريب ) هذا فيه تقرير الرسالة أيضا وذلك لأن الله تعالى قال على سبيل العموم : ( فمن اهتدى فلنفسه ) [ الزمر : 41 ] وقال في حق النبي صلى الله عليه وسلم : ( وإن اهتديت فبما يوحي إلي ربي ) يعني ضلالي على نفسي كضلالكم ، وأما اهتدائي فليس بالنظر والاستدلال كاهتدائكم ، وإنما هو بالوحي المبين ، وقوله : ( إنه سميع ) أي يسمع إذا ناديته واستعديت به عليكم قريب يأتيكم من غير تأخير ، ليس يسمع عن بعد ولا يلحق الداعي .
ثم قال تعالى : ( ولو ترى إذ فزعوا فلا فوت وأخذوا من مكان قريب ) .
لما قال : ( سميع ) قال : هو قريب فإن لم يعذب عاجلا ولا يعين صاحب الحق في الحال ، وإنما يستعجل من يخاف الفوت . وقوله : ( فيوم الفزع آت لا فوت ولو ترى ) جوابه محذوف أي : ترى عجبا ( وأخذوا من مكان قريب ) لا يهربون وإنما الأخذ قبل تمكنهم من الهرب .
ثم قال تعالى : ( وقالوا آمنا به وأنى لهم التناوش من مكان بعيد )
أي بعد ظهور الأمر حيث لا ينفع إيمان قالوا آمنا ، ( وأنى لهم التناوش ) أي كيف يقدرون على الظفر بالمطلوب وذلك لا يكون إلا في الدنيا وهم في الآخرة ؟ والدنيا من الآخرة بعيدة ، فإن قيل : فكيف قال في كثير من المواضع : إن الآخرة من الدنيا قريبة ، ولهذا سماها الله الساعة وقال : ( لعل الساعة قريب ) [ الشورى : 17 ] نقول : الماضي كالأمس الدابر بعدما يكون إذ لا وصول إليه ، والمستقبل وإن كان بينه وبين الحاضر سنين فإنه آت ، فيوم القيامة الدنيا بعيدة لمضيها وفي الدنيا يوم القيامة قريب لإتيانه ، والتناوش هو التناول عن قرب . وقيل عن بعد ، ولما جعل الله الفعل مأخوذا كالجسم جعل ظرف الفعل وهو الزمان كظرف الجسم وهو المكان فقال : ( من مكان بعيد ) والمراد ما مضى من الدنيا .
ثم بين الله تعالى أن إيمانهم لا نفع فيه بسبب أنهم كفروا به من قبل ، والإشارة في قوله : ( آمنا به ) وقوله : ( وقد كفروا به من قبل ) إلى شيء واحد ، إما محمد عليه الصلاة والسلام ، وإما القرآن وإما الحق الذي أتى به محمد عليه السلام وهو أقرب وأولى ، وقوله : ( ويقذفون بالغيب ) ضد يؤمنون بالغيب ؛ لأن ، وأما الكافر فهو يقذف بالغيب ، أي يقول ما لا يعلمه ، وقوله : ( الغيب ينزل من الله على لسان الرسول ، فيقذفه الله في القلوب ويقبله المؤمن من مكان بعيد ) يحتمل أن يكون المراد منه أن مأخذهم بعيد أخذوا الشريك من أنهم لا يقدرون على أعمال كثيرة إلا إذا كانوا أشخاصا كثيرة ، فكذلك المخلوقات الكثيرة وأخذوا بعد الإعادة من حالهم وعجزهم عن الإحياء ، فإن المريض يداوى فإذا مات لا يمكنهم إعادة الروح إليه ، وقياس الله على المخلوقات بعيد المأخذ ، ويحتمل أن يقال : إنهم كانوا يقولون بأن الساعة إذا كانت قائمة فالثواب والنعيم لنا ، كقول قائلهم : ( ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى ) فكانوا يقولون ذلك فإن كان من قول الرسول فما [ ص: 236 ] كان ذلك عندهم حتى يقولوا عن إحساس فإن ما لا يجب عقلا لا يعلم إلا بالإحساس أو بقول الصادق ، فهم كانوا يقولون عن الغيب من مكان بعيد ، فإن قيل قد ذكرت أن الآخرة قريب فكيف قال : من مكان بعيد ؟ نقول : الجواب عنه من وجهين :
أحدهما : أن ذلك قريب عند من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ومن لم يؤمن لا يمكنه التصديق به فيكون بعيدا عنده .
الثاني : أن الحكاية يوم القيامة ، فكأنه قال : كانوا يقذفون من مكان بعيد وهو الدنيا ، ويحتمل وجها آخر وهو أنهم في الآخرة يقولون : ( ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحا ) [ السجدة : 12 ] وهو قذف بالغيب من مكان بعيد وهو الدنيا .
( وحيل بينهم وبين ما يشتهون كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب )
ثم قال تعالى : ( وحيل بينهم وبين ما يشتهون ) من العود إلى الدنيا أو بين لذات الدنيا ، فإن قيل : كيف يصح قولك ما يشتهون من العود مع أنه تعالى قال : ( كما فعل بأشياعهم من قبل إنهم كانوا في شك مريب ) وما حيل بينهم وبين العود ؟ قلنا : لم قلتم إنه ما حيل بينهم ، بل وأرادوا أن يؤمنوا عند ظهور اليأس ولم يقبل ، وقوله : ( كل من جاءه الملك طلب التأخير ولم يعط مريب ) يحتمل وجهين :
أحدهما : ذي ريب .
والثاني : موقع في الريب ، وسنذكره في موضع آخر إن شاء الله تعالى ، والله أعلم بالصواب ، والحمد لله رب العالمين وصلاته على خير خلقه محمد النبي وآله وصحبه وأزواجه أجمعين .