( إن الله بعباده لخبير بصير ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير )
المسألة الرابعة : قوله : ( إن الله بعباده لخبير بصير ) فيه وجهان :
أحدهما : إنه تقرير لكونه هو الحق ؛ لأنه وحي من الله ، فلا يكون باطلا في وحيه لا في الباطن ولا في الظاهر . والله خبير عالم بالبواطن بصير عالم بالظواهر
وثانيهما : أن يكون جوابا لما كانوا يقولونه : إنه لم ينزل على رجل عظيم ، فيقال : إن الله بعباده لخبير يعلم بواطنهم ، وبصير يرى ظواهرهم ، فاختار محمدا عليه السلام ولم يختر غيره فهو أصلح من الكل .
ثم قال تعالى : ( فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا ) اتفق أكثر المفسرين على أن المراد من الكتاب القرآن ، وعلى هذا فالذين اصطفيناهم الذين أخذوا بالكتاب ، وهم المؤمنون والظالم والمقتصد والسابق كلهم منهم ، ويدل عليه قوله تعالى : ( جنات عدن يدخلونها ) ( الرعد : 23 ) أخبر بدخولهم الجنة ، وكلمة ( ثم أورثنا ) أيضا تدل عليه ؛ لأن الإيراث إذا كان بعد الإيحاء ولا كتاب بعد القرآن ، فهو الموروث والإيراث المراد منه الإعطاء بعد ذهاب من كان بيده المعطى ، ويحتمل أن يقال : المراد من الكتاب هو جنس الكتاب ، كما في قوله تعالى : ( جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير ) ( فاطر : 25 ) والمعنى على هذا : إنا أعطينا الكتاب الذين اصطفينا وهم الأنبياء ، ويدل عليه أن لفظ المصطفى على الأنبياء إطلاقه كثير ، ولا كذلك على غيرهم ؛ ولأن قوله : ( من عبادنا ) دل على أن العباد أكابر مكرمون بالإضافة إليه ، ثم إن المصطفين منهم أشرف منهم ، ولا يليق بمن يكون أشرف من الشرفاء أن يكون ظالما مع أن لفظ الظالم أطلقه الله في كثير من المواضع على الكافر وسمي الشرك ظلما ، وعلى الوجه الأول الظاهر بين معناه : آتينا القرآن لمن آمن بمحمد وأخذوه منه وافترقوا ( فمنهم ظالم ) وهو المسيء ( ومنهم مقتصد ) وهو الذي خلط عملا صالحا وآخر سيئا ( ومنهم سابق بالخيرات ) وهو الذي أخلص العمل لله وجرده عن السيئات ، فإن قال قائل : كيف قال في حق من ذكر في حقه أنه من عباده وأنه مصطفى إنه ظالم ، مع أن الظالم يطلب على الكافر في كثير من المواضع ؟ فنقول : المؤمن عند المعصية يضع [ ص: 23 ] نفسه في غير موضعها فهو ظالم لنفسه حال المعصية ، وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم : ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) ويصحح هذا قول عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : " ظالمنا مغفور له " ، وقال آدم عليه السلام مع كونه مصطفى : ( ربنا ظلمنا أنفسنا ) ( الأعراف : 23 ) وأما الكافر فيضع قلبه الذي به اعتبار الجسد في غير موضعه ، فهو ظالم على الإطلاق ، وأما قلب المؤمن فمطمئن بالإيمان لا يضعه في غير التفكر في آلاء الله ، ولا يضع فيه غير محبة الله ، وفي أقوال كثيرة : المراتب الثلاث
أحدها : الظالم هو الراجح السيئات ، والمقتصد هو الذي تساوت سيئاته وحسناته ، والسابق هو الذي ترجحت حسناته .
ثانيها : الظالم هو الذي ظاهره خير من باطنه ، والمقتصد من تساوى ظاهره وباطنه ، والسابق من باطنه خير .
ثالثها : الظالم هو الموحد بلسانه الذي تخالفه جوارحه ، والمقتصد هو الموحد الذي يمنع جوارحه من المخالفة بالتكليف ، والسابق هو الموحد الذي ينسيه التوحيد عن التوحيد .
ورابعها : الظالم صاحب الكبيرة ، والمقتصد صاحب الصغيرة ، والسابق المعصوم .
خامسها : الظالم التالي للقرآن غير العالم به والعامل بموجبه ، والمقتصد التالي العالم ، والسابق التالي العالم العامل .
سادسها : الظالم الجاهل والمقتصد المتعلم والسابق العالم .
سابعها : الظالم أصحاب المشأمة ، والمقتصد أصحاب الميمنة ، والسابق السابقون المقربون .
ثامنها : الظالم الذي يحاسب فيدخل النار ، والمقتصد الذي يحاسب فيدخل الجنة ، والسابق الذي يدخل الجنة من غير حساب .
تاسعها : الظالم المصر على المعصية ، والمقتصد هو النادم والتائب ، والسابق هو المقبول التوبة .
عاشرها : الظالم الذي أخذ القرآن ولم يعمل به ، والمقتصد الذي عمل به ، والسابق الذي أخذه وعمل به وبين للناس العمل به ، فعملوا به بقوله فهو كامل ومكمل ، والمقتصد كامل والظالم ناقص ، والمختار هو أن الظالم من خالف فترك أوامر الله وارتكب مناهيه ، فإنه واضع للشيء في غير موضعه ، والمقتصد هو المجتهد في ترك المخالفة ، وإن لم يوفق لذلك وبدر منه ذنب وصدر عنه إثم ، فإنه اقتصد واجتهد وقصد الحق ، والسابق هو الذي لم يخالف بتوفيق الله ويدل عليه قوله تعالى : ( بإذن الله ) أي اجتهد ووفق لما اجتهد فيه ، وفيما اجتهد فهو سابق بالخير يقع في قلبه فيسبق إليه قبل تسويل النفس ، والمقتصد يقع في قلبه فتردده النفس ، والظالم تغلبه النفس ، ونقول بعبارة أخرى : من غلبته النفس الأمارة وأمرته فأطاعها ظالم ، ومن جاهد نفسه فغلب تارة وغلب أخرى فهو المقتصد ، ومن قهر نفسه فهو السابق .
وقوله : ( ذلك هو الفضل الكبير ) يحتمل وجوها :
أحدها : التوفيق المدلول عليه بقوله : ( بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير ) .
ثانيها : . السبق بالخيرات هو الفضل الكبير
ثالثها : الإيراث فضل كبير هذا على الوجه المشهور من التفسير ، أما الوجه الآخر ، وهو أن يقال : ( ثم أورثنا الكتاب ) أي جنس الكتاب ، كما قال تعالى : ( جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزبر وبالكتاب المنير ) ( فاطر : 25 ) يرد عليه أسئلة :
أحدها : ثم للتراخي وإيتاء الكتاب بعد الإيحاء إلى محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن ، فما المراد بكلمة ثم ؟ نقول : معناه إن الله خبير بصير خبرهم وأبصرهم ثم أورثهم الكتاب ؛ كأنه قال تعالى : إنا علمنا البواطن وأبصرنا الظواهر ، فاصطفينا عبادا ( ثم أورثنا الكتاب ) .
ثانيها : كيف يكون من الأنبياء ظالم لنفسه ؟ نقول : منهم غير راجع إلى الأنبياء المصطفين ، بل المعنى : إن الذي أوحينا إليك هو الحق وأنت المصطفى كما اصطفينا رسلا وآتيناهم كتبا ، ومنهم أي من قومك ظالم كفر بك وبما أنزل إليك ، ومقتصد آمن بك ولم يأت بجميع ما أمرته به ، وسابق آمن وعمل صالحا .
وثالثها : قوله : ( جنات عدن يدخلونها ) الداخلون هم المذكورون ، وعلى ما ذكرتم لا يكون الظالم داخلا ، نقول : الداخلون هم السابقون ، وأما المقتصد فأمره موقوف أو هو يدخل النار أو لا ثم يدخل الجنة ، والبيان لأول [ ص: 24 ] الأمر لا لما بعده ، ويدل عليه قوله : ( يحلون فيها من أساور من ذهب ) وقوله : ( أذهب عنا الحزن ) ( فاطر : 34 ) .