( إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون )
ثم قال تعالى : ( إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون ) .
لما بين أنهم لا يؤمنون بين أن ذلك من الله فقال : ( إنا جعلنا ) وفيه وجوه :
أحدها : أن المراد إنا جعلناهم ممسكين لا ينفقون في سبيل الله كما قال تعالى : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ) ( الإسراء : 29 ) .
والثاني : أن الآية نزلت في أبي جهل وصاحبيه المخزوميين حيث حلف أبو جهل أنه يرضخ رأس محمد ، فرآه ساجدا فأخذ صخرة ورفعها ليرسلها على رأسه فالتزقت بيده ويده بعنقه .
والثالث : وهو الأقوى وأشد مناسبة لما تقدم وهو أن ذلك كناية عن منع الله إياهم عن الاهتداء ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : هل للوجهين الأولين مناسبة مع ما تقدم من الكلام ؟ نقول : الوجه الأول له مناسبة ، وهي أن قوله تعالى : ( فهم لا يؤمنون ) يدخل فيه أنهم لا يصلون ، كما قال تعالى : ( وما كان الله ليضيع إيمانكم ) [البقرة : 143] أي صلاتكم عند بعض المفسرين ، والزكاة مناسبة للصلاة على ما بينا ، فكأنه قال : لا يصلون ولا يزكون ، وأما على الوجه الثاني فمناسبة خفية ، وهي أنه لما قال : ( لقد حق القول على أكثرهم ) وذكرنا أن [ ص: 40 ] المراد به البرهان ، قال بعد ذلك : بل عاينوا وأبصروا ما يقرب من الضرورة حيث التزقت يده بعنقه ومنع من إرسال الحجر ، وهو يضطر إلى الإيمان ولم يؤمن ، علم أنه لا يؤمن أصلا ، والتفسير هو الوجه الثالث .
المسألة الثانية : قوله : ( فهي ) راجعة إلى ماذا ؟ نقول : فيها وجهان :
أحدهما : أنها راجعة إلى الأيدي ، وإن كانت غير مذكورة ، ولكنها معلومة ؛ لأن المغلول تكون يداه مجموعتين في الغل إلى عنقه .
وثانيهما : - وهو ما اختاره - إنها راجعة إلى الأغلال ، معناه : إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا ثقالا غلاظا بحيث تبلغ إلى الأذقان ، فلم يتمكن المغلول معها من أن يطأطئ رأسه . الزمخشري
المسألة الثالثة : كيف يفهم من الغل في العنق المنع من الإيمان حتى يجعل كناية ؟ فنقول : المغلول الذي بلغ الغل إلى ذقنه ، وبقي مقمحا رافع الرأس لا يبصر الطريق الذي عند قدمه ، وذكر بعده أن بين يديه سدا ، ومن خلفه سدا ، فهو لا يقدر على انتهاج السبيل ورؤيته ، وقد ذكر من قبل أن المرسل على صراط مستقيم ، فهذا الذي يهديه النبي إلى الصراط المستقيم العقلي جعل ممنوعا كالمغلول الذي يجعل ممنوعا من إبصار الطريق الحسي ، ويحتمل وجها آخر ، وهو أن يقال : الأغلال في الأعناق عبارة عن عدم الانقياد ، فإن المنقاد يقال فيه : إنه وضع رأسه على الخط وخضع عنقه ، والذي في رقبته الغل الثخين إلى الذقن لا يطأطئ رأسه ولا يحركه تحريك المصدق ، ويصدق هذا قوله : ( مقمحون ) فإن المقمح هو الرافع رأسه كالمتأبي ، يقال : بعير قامح إذا رفع رأسه فلم يشرب الماء ولم يطأطئه للشرب ، والإيمان كالماء الزلال الذي به الحياة ، وكأنه تعالى قال : ( إنا جعلنا في أعناقهم أغلالا فهي إلى الأذقان فهم مقمحون ) لا يخضعون الرقاب لأمر الله .