ثم قال تعالى : ( ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ) .
وهو إشارة إلى ما اعتقدوه وهو أن التقوى المأمور بها في قوله : ( وإذا قيل لهم اتقوا ) والإنفاق المذكور في قوله تعالى : ( وإذا قيل لهم أنفقوا ) لا فائدة فيه لأن الوعد لا حقيقة له . وقوله : ( متى هذا الوعد ) أي متى يقع الموعود به ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : وهي إن للشرط وهي تستدعي جزاء ، ومتى استفهام لا يصلح جزاء فما الجواب ؟ نقول : هي في الصورة استفهام ، وفي المعنى إنكار كأنهم قالوا : إن كنتم صادقين في وقوع الحشر فقولوا متى يكون .
المسألة الثانية : الخطاب مع من في قولهم : ( إن كنتم ) ؟ نقول : الظاهر أنه مع الأنبياء لأنهم لما أنكروا الرسالة ، قالوا : إن كنتم يا أيها المدعون للرسالة صادقين فأخبرونا متى يكون .
المسألة الثالثة : ليس في هذا الموضع وعد ، فالإشارة بقوله : ( هذا الوعد ) إلى أي وعد ؟ نقول : هو ما في قوله تعالى : ( وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم ) من قيام الساعة ، أو نقول هو معلوم وإن لم يكن مذكورا لكون الأنبياء مقيمين على تذكيرهم بالساعة والحساب والثواب والعقاب .
ثم قال تعالى : ( ما ينظرون إلا صيحة واحدة ) أي لا ينتظرون إلا الصيحة المعلومة ، والتنكير للتكثير ، فإن قيل : هم ما كانوا ينتظرون بل كانوا يجزمون بعدمها ، فنقول : الانتظار فعلي لأنهم كانوا يفعلون ما يستحق به فاعله البوار وتعجيل العذاب وتقريب الساعة لولا حكم الله وقدرته وعلمه ، فإنهم لا يقولون ، أو نقول لما لم يكن قوله متى استفهاما حقيقيا ، قال : ينتظرون انتظارا غير حقيقي ، لأن القائل متى يفهم منه الانتظار نظر إلى قوله .
وقد ذكروا ههنا في الصيحة أمورا تدل على هولها وعظمها :
أحدها : التنكير يقال : لفلان مال كثير ، وله قلب أي جريء .
وثانيها : واحدة أي لا يحتاج معها إلى ثانية .
وثالثها : تأخذهم أي تعمهم بالأخذ وتصل إلى من في مشارق الأرض ومغاربها ، ولا شك أن مثلها لا يكون إلا عظيما .
وقوله : ( تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون ) ، مما يعظم به الأمر لأن الصيحة المعتادة إذا وردت على غافل يرجف فإن المقبل على مهم إذا صاح به صائح يرجف فؤاده بخلاف [ ص: 77 ] المنتظر للصيحة ، فإذا كان حال الصيحة ما ذكرناه من الشدة والقوة وترد على الغافل الذي هو مع خصمه مشغول يكون الارتجاف أتم والإيخاف أعظم ، ويحتمل أن يقال : ( يخصمون ) في البعث ويقولون : لا يكون ذلك أصلا فيكونون غافلين عنه ، بخلاف من يعتقد أنه يكون فيتهيأ وينتظر وقوعه فإنه لا يرتجف ، وهذا هو المراد بقوله تعالى : ( فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء ) [ الزمر : 68 ] ممن اعتقد وقوعها فاستعد لها ، وقد مثلنا ذلك فيمن شام برقا وعلم أن سيكون رعدا ومن لم يشمه ولم يعلم ثم رعد الرعد ترى الشائم العالم ثابتا ، والغافل الذاهل مغشيا عليه ، ثم بين شدة الأخذ وهي بحيث لا تمهلهم إلى أن يوصوا . وفيه أمور مبينة للشدة .
أحدها : عدم الاستطاعة فإن قول القائل : فلان في هذا الحال لا يوصي دون قوله لا يستطيع التوصية ؛ لأن من لا يوصي قد يستطيعها .
الثاني : التوصية ، وهي بالقول والقول يوجد أسرع مما يوجد الفعل فقال : ( فلا يستطيعون ) كلمة فكيف فعلا يحتاج إلى زمان طويل من أداء الواجبات ورد المظالم .
الثالث : اختيار التوصية من بين سائر الكلمات يدل على أنه لا قدرة له على أهم الكلمات فإن وقت الموت الحاجة إلى التوصية أمس .
الرابع : التنكير في التوصية للتعميم ، أي لا يقدر على توصية ما ولو كانت بكلمة يسيرة ، ولأن التوصية قد تحصل بالإشارة فالعاجز عنها عاجز عن غيرها .
الخامس : قوله : ( ولا إلى أهلهم يرجعون ) بيان لشدة الحاجة إلى التوصية ؛ لأن من يرجو الوصول إلى أهله قد يمسك عن الوصية لعدم الحاجة إليها ، وأما من يقطع بأنه لا وصول له إلى أهله فلا بد له من التوصية ، فإذا لم يستطع مع الحاجة دل على غاية الشدة .
وفي ولا إلى أهلهم يرجعون ) وجهان : قوله : (
أحدهما : ما ذكرنا أنهم يقطعون بأنهم لا يمهلون إلى أن يجتمعوا بأهاليهم وذلك يوجب الحاجة إلى التوصية .
وثانيهما : أنهم إلى أهلهم لا يرجعون ، يعني يموتون ولا رجوع لهم إلى الدنيا ، ومن يسافر سفرا ويعلم أنه لا رجوع له من ذلك السفر ولا اجتماع له بأهله مرة أخرى يأتي بالوصية .
ثم بين ما بعد الصيحة الأولى فقال : ( ونفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون ) أي نفخ فيه [ مرة ] أخرى كما قال تعالى : ( ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ) [ الزمر : 68 ] وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال تعالى في موضع آخر : ( ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ) وقال ههنا : ( فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون ) والقيام غير النسلان وقوله في الموضعين : ( فإذا هم ) يقتضي أن يكونا معا . نقول : الجواب عنه من وجهين :
أحدهما : أن القيام لا ينافي المشي السريع ، لأن الماشي قائم ولا ينافي النظر .
وثانيهما : أن السرعة مجيء الأمور كأن الكل في زمان واحد كقول القائل :
مكر مفر مقبل مدبر معا [ كجلمود صخر حطه السيل من عل ]
المسألة الثانية : كيف صارت النفختان مؤثرتين في أمرين متضادين الإحياء والإماتة ؟ نقول : لا مؤثر غير الله ، والنفخ علامة ، ثم إن الصوت الهائل يزلزل الأجسام فعند الحياة كانت أجزاء الحي مجتمعة فزلزلها فحصل فيها تفريق ، وحالة الموت كانت الأجزاء متفرقة فزلزلها فحصل فيها اجتماع فالحاصل أن النفختين يؤثران تزلزلا وانتقالا للأجرام فعند الاجتماع تتفرق وعند الافتراق تجتمع .
المسألة الثالثة : ما نقول : هي إذا التي للظرف معناه نفخ في الصور فإذا نفخ فيه هم [ ص: 78 ] ينسلون لكن الشيء قد يكون ظرفا للشيء معلوما كونه ظرفا ، فعند الكلام يعلم كونه ظرفا ، وعن المشاهدة لا يتجدد علم كقول القائل إذا طلعت الشمس أضاء الجو وغير ذلك ، فإذا رأى إضاءة الجو عند الطلوع لم يتجدد علم زائد ، وأما إذا قلت : خرجت فإذا أسد بالباب ، كان ذلك الوقت ظرف كون الأسد بالباب لكنه لم يكن معلوما فإذا رآه علمه فحصل العلم بكونه ظرفا له مفاجأة عند الإحساس فقيل : إذا للمفاجأة . التحقيق في إذا التي للمفاجأة ؟
المسألة الرابعة : أين يكون في ذلك الوقت أجداث وقد زلزلت الصيحة الجبال ؟ نقول : يجمع الله أجزاء كل واحد في الموضع الذي قبر فيه فيخرج من ذلك الموضع وهو جدثه .
المسألة الخامسة : الموضع موضع ذكر الهيبة وتقدم ذكر الكافر ، ولفظ الرب يدل على الرحمة فلو قال بدل الرب المضاف إليهم لفظا دالا على الهيبة هل يكون أليق أم لا ؟ قلنا : هذا اللفظ أحسن ما يكون ، لأن من أساء واضطر إلى التوجه إلى من أحسن إليه يكون ذلك أشد ألما وأكثر ندما من غيره .
المسألة السادسة : المسيء إذا توجه إلى المحسن يقدم رجلا ويؤخر أخرى ، والنسلان هو سرعة المشي فكيف يوجد منهم ذلك ؟ نقول : ( ينسلون ) من غير اختيارهم ، وقد ذكرنا في تفسير قوله : ( فإذا هم ينظرون ) أنه أراد أن يبين كمال قدرته ونفوذ إرادته حيث ، فيكون في وقته جمع وتركيب وإحياء وقيام وعدو في زمان واحد ، فقوله : ( ينفخ في الصور فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون ) يعني في زمان واحد ينتهون إلى هذه الدرجة وهي النسلان الذي لا يكون إلا بعد مراتب .