[ ص: 83 ] ( سلام قولا من رب رحيم ) .
وقوله تعالى : ( سلام قولا من رب رحيم ) هو أكمل الأشياء وهو آخرها الذي لا شيء فوقه ولنبينه في مسائل :
المسألة الأولى : سلام ) ؟ نقول : يحتمل ذلك وجوها . ما الرافع لقوله (
أحدها : هو بدل مما يدعون كأنه تعالى لما قال : ( ولهم ما يدعون ) بينه ببدله ، فقال لهم سلام فيكون في المعنى كالمبتدأ الذي خبره جار ومجرور ، كما يقال : في الدار رجل ولزيد مال ، وإن كان في النحو ليس كذلك ، بل هو بدل جائز ، فتكون ما بمعنى الذي معرفة ، وسلام نكرة ، ويحتمل على هذا أن يقال " ما " في قوله تعالى : ( وبدل النكرة من المعرفة ما يدعون ) لا موصوفة ولا موصولة بل هي نكرة تقديره لهم شيء يدعون ثم بين بذكر البدل فقال : ( سلام ) والأول هو الصحيح .
وثانيها : سلام خبر " ما " ، ولهم لبيان الجهة تقديره ما يدعون سالم لهم أي خالص والسلام بمعنى السالم الخالص أو السليم ، يقال : عبد سلام أي سليم من العيوب كما يقال لزيد الشرف متوفر والجار والمجرور يكون لبيان من له ذلك ، والشرف هو المبتدأ ومتوفر خبره .
وثالثها : قوله تعالى : ( سلام ) منقطع عما تقدم ، وسلام مبتدأ وخبره محذوف تقديره : سلام عليهم . فيكون ذلك إخبارا من الله تعالى في يومنا هذا كأنه تعالى حكى لنا وقال : ( إن أصحاب الجنة اليوم في شغل ) ثم لما بين كمال حالهم قال : سلام عليهم ، وهذا كما في قوله تعالى : ( سلام على نوح ) [ الصافات : 79 ] ، ( وسلام على المرسلين ) [ الصافات : 181 ] فيكون الله تعالى أحسن إلى عباده المؤمنين كما أحسن إلى عباده المرسلين ، وهذا وجه مبتكر جيد ما يدل عليه منقول ، أو نقول : تقديره سلام عليكم ويكون هذا نوعا من الالتفات حيث قال لهم كذا وكذا ، ثم قال : سلام عليكم .
المسألة الثانية : قولا ) منصوب بماذا ؟ نقول يحتمل وجوها : (
أحدها : نصب على المصدر تقديره : على قولنا : المراد لهم سلام هو أن يقال لهم سلام يقوله الله قولا أو تقوله الملائكة قولا ، وعلى قولنا ما يدعون سالم لهم تقديره : قال الله ذلك قولا ووعدهم بأن لهم ما يدعون سالم وعدا ، وعلى قولنا سلام عليهم تقديره أقوله قولا ، وقوله : ( من رب رحيم ) يكون لبيان أن السلام منه أي سلام عليهم من رب رحيم أقوله قولا ، ويحتمل أن يقال على هذا إنه تمييز ؛ لأن السلام قد يكون قولا وقد يكون فعلا ، فإن من يدخل على الملك فيطأطئ رأسه يقول : سلمت على الملك ، وهو حينئذ كقول القائل البيع موجود حكما لا حسا وهذا ممنوع عنه قطعا لا ظنا .
المسألة الثالثة : قال في السلام ( من رب رحيم ) وقال في غيره من أنواع الإكرام ( نزلا من غفور رحيم ) [ فصلت : 32 ] فهل بينهما فرق ؟ نقول : نعم ، أما هناك فلأن النزل ما يرزق النزيل أولا ، وذلك وإن كان يدل عليه ما بعده فإن النزيل إذا أكرم أولا يدل على أنه مكرم وإذا أخل بإكرامه في الأول يدل على أنه مهان دائما ، غير أن ذلك غير مقطوع به ؛ لجواز أن يكون الملك واسع الرزق فيرزق نزيله أولا ، ولا يمنع منه الطعام والشراب ويناقشه في غيره ، فقال : غفور لما صدر من العبيد ليأمن العبد ، ولا يقول بأن الإطعام قد يوجد ممن يعاقب بعده والسلام يظهر مزية تعظيمه للمسلم عليه لا بمغفرة فقال : ( ورب غفور ) [ سبأ : 15 ] لأن رب الشيء مالكه الذي إذا نظر إلى علو مرتبته لا يرجى منه الالتفات إليه بالتعظيم ، فإذا سلم عليه يعجب منه وقيل : انظر هو سيده ويسلم عليه .