( واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة ) .
ثم قال تعالى : ( واتخذوا من دون الله آلهة لعلهم ينصرون ) .
إشارة إلى بيان زيادة ضلالهم ونهايتها ، فإنهم كان الواجب عليهم عبادة الله شكرا لأنعمه ، فتركوها وأقبلوا على عبادة من لا يضر ولا ينفع ، وتوقعوا منه النصرة مع أنهم هم الناصرون لهم كما قال عنهم : ( حرقوه وانصروا آلهتكم ) [ الأنبياء : 68 ] وفي الحقيقة لا هي ناصرة ولا منصورة .
لا يستطيعون نصرهم وهم لهم جند محضرون ) . وقوله تعالى : (
إشارة إلى الحشر بعد تقرير التوحيد ، وهذا كقوله تعالى : ( إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون ) [ الأنبياء : 98 ] وقوله : ( احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم ) [ الصافات : 22 ] وقوله : ( أولئك في العذاب ) [ سبأ : 38 ] وهو يحتمل معنيين :
أحدهما : أن يكون العابدون جندا لما اتخذوه آلهة كما ذكرنا .
الثاني : أن يكون الأصنام جندا للعابدين ، وعلى هذا ففيه معنى لطيف وهو أنه تعالى لما قال : ( لا يستطيعون نصرهم ) أكدها بأنهم لا يستطيعون نصرهم حال ما يكونون جندا لهم ومحضرين لنصرتهم ، فإن ذلك دال على عدم الاستطاعة ، فإن من حضر واجتمع ثم عجز عن النصرة يكون في غاية الضعف بخلاف من لم يكن متأهبا ولم يجمع أنصاره .
وقوله تعالى : ( فلا يحزنك قولهم ) إشارة إلى الرسالة ؛ لأن الخطاب معه بما يوجب تسلية قلبه دليل اجتبائه واختياره إياه .
وقوله تعالى : ( إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون ) يحتمل وجوها :
أحدها : أن لا يكون ذلك تهديدا للمنافقين والكافرين فقوله ( ما يسرون ) من النفاق ( وما يعلنون ) من الشرك .
والثاني : ما يسرون من العلم بك وما يعلنون من الكفر بك .
الثالث : ما يسرون من العقائد الفاسدة وما يعلنون من الأفعال القبيحة .
ثم إنه تعالى لما ذكر دليلا من الآفاق على وجوب عبادته بقوله : ( أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما ) [ يس : 71 ] ذكر دليلا من الأنفس .
فقال : ( أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة ) قيل : إن المراد بالإنسان أبي بن خلف ، فإن الآية وردت فيه حيث أخذ عظما باليا وأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال : إنك تقول إن إلهك يحيي هذه العظام فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : نعم ويدخلك جهنم ، وقد ثبت في أصول الفقه أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ، ألا ترى أن قوله تعالى : ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها ) [ المجادلة : 1 ] نزلت في واحدة وأراد الكل في الحكم فكذلك كل إنسان فهذه الآية رد عليه إذا علمت عمومها فنقول فيها لطائف : ينكر الله أو الحشر
[ ص: 95 ] اللطيفة الأولى : قوله : ( أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا ) [ يس : 71 ] معناه الكافرون المنكرون التاركون عبادة الله المتخذون من دونه آلهة ، أو لم يروا خلق الأنعام لهم وعلى هذا فقوله تعالى : ( أولم ير الإنسان ) كلام أعم من قوله : ( أولم يروا ) لأنه مع جنس الإنسان وهو مع جمع منهم ، فنقول سبب ذلك أن دليل الأنفس أشمل وأكمل وأتم وألزم ، فإن الإنسان قد يغفل عن الأنعام وخلقها عند غيبتها ولكن [ لا يغفل ] هو مع نفسه متى ما يكون وأينما يكون . فقال : إن غاب عن الحيوان وخلقه فهو لا يغيب عن نفسه ، فما باله ! أولم ير أنا خلقناه من نطفة وهو أتم نعمة ، فإن سائر النعم بعد وجوده . وقوله : ( من نطفة ) إشارة إلى وجه الدلالة ، وذلك لأن خلقه لو كان من أشياء مختلفة الصور كان يمكن أن يقال : العظم خلق من جنس صلب واللحم من جنس رخو ، وكذلك الحال في كل عضو ، ولما كان خلقه عن نطفة متشابهة الأجزاء وهو مختلف الصور دل على الاختيار والقدرة إلى هذا أشار بقوله تعالى : ( يسقى بماء واحد ) [ الرعد : 4 ] .