ثم قال تعالى : ( فلما أسلما    ) يقال : سلم لأمر الله وأسلم واستسلم بمعنى واحد ، وقد قرئ بهن جميعا إذا انقاد له وخضع ، وأصلها من قولك سلم هذا لفلان إذا خلص له ، ومعناه سلم من أن ينازع فيه ، وقولهم سلم لأمر الله وأسلم له منقولان عنه بالهمزة ، وحقيقة معناها أخلص نفسه لله وجعلها سالمة له خالصة ، وكذلك معنى استسلم استخلص نفسه لله ، وعن قتادة  في أسلما أسلم هذا ابنه وهذا نفسه ، ثم قال تعالى : ( وتله للجبين    ) أي صرعه على شقه فوقع أحد جبينيه على الأرض ; وللوجه جبينان ، والجبهة بينهما ، قال  ابن الأعرابي  التليل والمتلول المصروع والمتل الذي يتل به أي يصرع ، فالمعنى أنه صرعه على جبينه ، وقال مقاتل  كبه على جبهته ، وهذا خطأ لأن الجبين غير الجبهة . 
ثم قال تعالى : ( وناديناه أن ياإبراهيم قد صدقت الرؤيا    ) وفيه قولان : 
الأول : أن هذا جواب فلما عند الكوفيين  والفراء  والواو زائدة . 
والقول الثاني : أن عند البصريين  لا يجوز ذلك ، والجواب مقدر ، والتقدير : فلما فعل ذلك وناداه الله أن يا إبراهيم  قد صدقت الرؤيا ، سعد سعادة عظيمة وآتاه الله نبوة ولده وأجزل له الثواب ، قالوا : وحذف الجواب ليس بغريب في القرآن ، والفائدة فيه أنه إذا كان محذوفا كان أعظم وأفخم ، قال المفسرون : لما أضجعه للذبح نودي من الجبل : ( ياإبراهيم قد صدقت الرؤيا    ) قال المحققون : السبب في هذا التكليف كمال طاعة إبراهيم  لتكاليف الله تعالى  ، فلما كلفه الله تعالى بهذا التكليف الشاق الشديد ، وظهر منه كمال الطاعة ، وظهر من ولده كمال الطاعة والانقياد ، لا جرم قال : قد صدقت الرؤيا  يعني حصل المقصود من تلك الرؤيا . 
وقوله : ( إنا كذلك نجزي المحسنين    ) ابتداء إخبار من الله تعالى ، وليس يتصل بما تقدم من الكلام ، والمعنى أن إبراهيم  وولده كانا محسنين في هذه الطاعة ، فكما جزينا هذين المحسنين فكذلك نجزي كل المحسنين . 
ثم قال تعالى : ( إن هذا لهو البلاء المبين    ) أي الاختبار البين الذي يتميز فيه المخلصون من غيرهم ، أو المحنة البينة الصعوبة التي لا محنة أصعب منها ( وفديناه بذبح عظيم    ) الذبح مصدر ذبحت والذبح أيضا ما   [ ص: 138 ] يذبح وهو المراد في هذه الآية ، وههنا مباحث تتعلق بالحكايات : 
فالأول : حكي في قصة الذبيح أن إبراهيم  عليه السلام لما أراد ذبحه قال : يا بني خذ الحبل والمدية وانطلق بنا إلى الشعب نحتطب ، فلما توسطا شعب ثبير  أخبره بما أمر به ، فقال : يا أبت اشدد رباطي في كيلا أضطرب ، واكفف عني ثيابك لا ينتضح عليها شيء من دمي فتراه أمي فتحزن ، واستحد شفرتك وأسرع إمرارها على حلقي ليكون أهون فإن الموت شديد ، واقرأ على أمي سلامي وإن رأيت أن ترد قميصي على أمي فافعل فإنه عسى أن يكون أسهل لها ، فقال إبراهيم  عليه السلام : نعم العون أنت يا بني على أمر الله ، ثم أقبل عليه يقبله وقد ربطه وهما يبكيان ، ثم وضع السكين على حلقه فقال : كبني على وجهي فإنك إذا نظرت وجهي رحمتني وأدركتك رقة ، وقد تحول بينك وبين أمر الله سبحانه وتعالى ، ففعل ثم وضع السكين على قفاه فانقلبت السكين ونودي يا إبراهيم  قد صدقت الرؤيا . 
البحث الثاني : اختلفوا في ذلك الكبش فقيل : إنه الكبش الذي تقرب به هابيل بن آدم  إلى الله تعالى فقبله ، وكان في الجنة يرعى حتى فدى الله تعالى به إسماعيل  ، وقال آخرون : أرسل الله كبشا من الجنة قد رعى أربعين خريفا ، وقال السدي    : نودي إبراهيم  فالتفت فإذا هو بكبش أملح انحط من الجبل ، فقام عنه إبراهيم  فأخذه فذبحه ، وخلى عن ابنه ، ثم اعتنق ابنه وقال : يا بني اليوم وهبت لي ، وأما قوله : ( عظيم    ) فقيل سمي عظيما لعظمه وسمنه ، وقال  سعيد بن جبير    : حق له أن يكون عظيما وقد رعى في الجنة أربعين خريفا ، وقيل سمي عظيما لعظم قدره حيث قبله الله تعالى فداء عن ولد إبراهيم  ، ثم قال تعالى : ( إنه من عبادنا المؤمنين     ) الضمير في قوله : ( إنه    ) عائد إلى إبراهيم  ، ثم قال تعالى : ( وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين    ) فقوله : ( نبيا    ) حال مقدرة أي بشرناه بوجود إسحاق  مقدرة نبوته ، ولمن يقول إن الذبيح هو إسماعيل  أن يحتج بهذه الآية ، وذلك لأن قوله : ( نبيا    ) حال ولا يجوز أن يكون المعنى فبشرناه بإسحاق  حال كون إسحاق  نبيا ; لأن البشارة به متقدمة على صيرورته نبيا ، فوجب أن يكون المعنى وبشرناه بإسحاق  حال ما قدرناه نبيا ، وحال ما حكمنا عليه فصبر ، وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ كانت هذه البشارة بشارة بوجود إسحاق  حاصلة بعد قصة الذبيح ، فوجب أن يكون الذبيح غير إسحاق  ، أقصى ما في الباب أن يقال : لا يبعد أن يقال هذه الآية وإن كانت متأخرة في التلاوة عن قصة الذبيح ، إلا أنها كانت متقدمة عليها في الوقوع والوجود ، إلا أنا نقول : الأصل رعاية الترتيب وعدم التغيير في النظم ، والله أعلم بالصواب . 
ثم قال تعالى : ( وباركنا عليه وعلى إسحاق    ) وفي تفسير هذه البركة وجهان : 
الأول : أنه تعالى أخرج جميع أنبياء بني إسرائيل  من صلب إسحاق    . 
والثاني : أنه أبقى الثناء الحسن على إبراهيم  وإسحاق  إلى يوم القيامة  ، لأن البركة عبارة عن الدوام والثبات ، ثم قال تعالى : ( ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين    ) وفي ذلك تنبيه على أنه لا يلزم من كثرة فضائل الأب فضيلة الابن ، لئلا تصير هذه الشبهة سببا لمفاخرةاليهود  ، ودخل تحت قوله : ( محسن    ) الأنبياء والمؤمنون ، وتحت قوله : ( ظالم    ) الكافر والفاسق ، والله أعلم . 
				
						
						
