الصفة السادسة : من داود عليه السلام قوله تعالى : ( صفات والطير محشورة كل له أواب ) وفيه مباحث :
[ ص: 163 ] البحث الأول : قوله : ( والطير ) معطوفة على الجبال ، والتقدير وسخرنا الطير محشورة ، قال رضي الله عنهما : ابن عباس داود إذا سبح جاوبته الجبال واجتمعت إليه الطير فسبحت معه ، واجتماعها إليه هو حشرها ، فيكون على هذا التقدير حاشرها هو الله ، ( فإن قيل ) كيف يصدر تسبيح الله عن الطير مع أنه لا عقل لها ؟ قلنا : لا يبعد أن يقال إن الله تعالى كان يخلق لها عقلا حتى تعرف الله فتسبحه حينئذ ، وكل ذلك كان معجزة كان لداود عليه السلام .
البحث الثاني : قال صاحب " الكشاف " قوله : ( محشورة ) في مقابلة ( يسبحن ) إلا أنه ليس في الحشر مثل ما كان في التسبيح من إرادة الدلالة على الحدوث شيئا بعد شيء ، فلا جرم جيء به اسما لا فعلا ، وذلك أنه قال لو قيل : وسخرنا الطير محشورة يسبحن على تقدير أن الحشر وجد من حاشرها جملة واحدة دل على القدر المذكور والله أعلم .
البحث الثالث : قرئ " والطير محشورة " بالرفع .
الصفة السابعة من صفات داود عليه السلام : قوله تعالى : ( كل له أواب ) ومعناه كل واحد من الجبال والطير أواب أي رجاع ، أي كلما رجع داود إلى التسبيح جاوبته ، فهذه الأشياء أيضا كانت ترجع إلى تسبيحاتها ، والفرق بين هذه الصفة وبين ما قبلها أن فيما سبق علمنا أن الجبال والطير سبحت مع تسبيح داود عليه السلام ، وبهذا اللفظ فهمنا دوام تلك الموافقة ، وقيل الضمير في قوله : ( كل له أواب ) لله تعالى أي داود والجبال والطير لله أواب أي مسبح مرجع للتسبيح . كل من
الصفة الثامنة : قوله تعالى : ( وشددنا ملكه ) أي قويناه ، وقال تعالى : ( سنشد عضدك بأخيك ) [القصص : 35] وقيل شددنا على المبالغة ، وأما الأسباب الموجبة لحصول هذا الشد فكثيرة ، وهي إما الأسباب الدنيوية أو الدينية ، أما الأول فذكروا فيه وجهين :
الأول : روى الواحدي عن عن سعيد بن جبير رضي الله عنهما أنه كان يحرسه كل ليلة ستة وثلاثون ألف رجل ، فإذا أصبح قيل ارجعوا فقد رضي عنكم نبي الله ، وزاد آخرون فذكروا أربعين ألفا . قالوا وكان أشد ملوك الأرض سلطانا ، وعن ابن عباس عكرمة عن أن رجلا ادعى عند ابن عباس داود على رجل أخذ منه بقرة فأنكر المدعى عليه ، فقال داود للمدعي : أقم البينة ، فلم يقمها ، فرأى داود في منامه . أن الله يأمره أن يقتل المدعى عليه ، فثبت داود وقال هو منام ، فأتاه الوحي بعد ذلك بأن تقتله فأحضره وأعلمه أن الله أمره بقتله ، فقال المدعى عليه صدق الله ، إني كنت قتلت أبا هذا الرجل غيلة . فقتله داود . فهذه الواقعة شددت ملكه ، وأما الأسباب الدينية الموجبة لهذا الشد فهي الصبر والتأمل التام والاحتياط الكامل .
الصفة التاسعة : قوله : ( وآتيناه الحكمة ) واعلم أنه تعالى قال : ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ) [البقرة : 269] واعلم أن الفضائل على ثلاثة أقسام : النفسانية والبدنية والخارجية ، والفضائل النفسانية محصورة في قسمين : العلم والعمل ، أما العلم فهو أن تصير النفس بالتصورات الحقيقية والتصديقات النفسانية بمقتضى الطاقة البشرية ، وأما العمل فهو أن يكون الإنسان آتيا بالعمل الأصلح الأصوب بمصالح الدنيا والآخرة ، فهذا هو الحكمة ، وإنما سمي هذا بالحكمة لأن اشتقاق الحكمة الصحيحة لا تقبل النسخ والنقض فكانت في غاية الإحكام ، وأما الأعمال المطابقة لمصالح الدنيا والآخرة فإنها واجبة الرعاية ولا تقبل [ ص: 164 ] النقض والنسخ ، فلهذا السبب سمينا تلك المعارف وهذه الأعمال بالحكمة .
الصفة العاشرة : قوله : ( وفصل الخطاب ) واعلم أن أجسام هذا العالم على ثلاثة أقسام :
أحدها : ما تكون خالية عن الإدراك والشعور ، وهي الجمادات والنباتات .
وثانيها : التي يحصل لها إدراك وشعور ولكنها لا تقدر على تعريف غيرها الأحوال التي عرفوها في الأكثر ، وهذا القسم هو جملة الحيوانات سوى الإنسان .
وثالثها : الذي يحصل له إدراك وشعور ويحصل عنده قدرة على تعريف غيره الأحوال المعلومة له ، وذلك هو الإنسان وقدرته على تعريف غيره الأحوال المعلومة عنده بالنطق والخطاب ، ثم إن الناس مختلفون في مراتب القدرة على التعبير عما في الضمير ، فمنهم من يتعذر عليه إيراد الكلام المرتب المنتظم ، بل يكون مختلط الكلام مضطرب القول ، ومنهم من يتعذر عليه الترتيب من بعض الوجوه ، ومنهم من يكون قادرا على ضبط المعنى والتعبير عنه إلى أقصى الغايات ، وكل من كانت هذه القدرة في حقه أكمل كانت الآثار الصادرة عن النفس النطقية في حقه أكمل ، وكل من كانت تلك القدرة في حقه أقل كانت تلك الآثار أضعف ، ولما بين الله تعالى كمال حال جوهر النفس النطقية التي لداود بقوله : ( وآتيناه الحكمة ) أردفه ببيان كمال حاله في النطق واللفظ والعبارة ، فقال : ( وفصل الخطاب ) وهذا الترتيب في غاية الجلالة ، ومن المفسرين من فسر ذلك بأن داود أول من قال في كلامه أما بعد ، وأقول : حقا إن الذين يتبعون أمثال هذه الكلمات فقد حرموا الوقوف على معاني كلام الله تعالى حرمانا عظيما والله أعلم ، وقول من قال المراد معرفة الأمور التي بها يفصل بين الخصوم وهو طلب البينة واليمين فبعيد أيضا ، لأن فصل الخطاب عبارة عن كونه قادرا على التعبير عن كل ما يخطر بالبال ويحضر في الخيال ، بحيث لا يختلط شيء بشيء ، وبحيث ينفصل كل مقام عن مقام ، وهذا معنى عام يتناول جميع الأقسام والله أعلم ، وههنا آخر الكلام في الصفات العشر التي ذكرها الله تعالى في مدح داود عليه السلام .