( يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب )
قوله تعالى : ( ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب )
اعلم أنه تعالى لما تمم الكلام في شرح القصة أردفها ببيان داود خلافة الأرض ، وهذا من أقوى الدلائل على فساد القول المشهور في تلك القصة ، لأن من البعيد جدا أن يوصف الرجل بكونه ساعيا في سفك دماء المسلمين ، راغبا في انتزاع أزواجهم منهم ، ثم يذكر عقيبه أن الله تعالى فوض خلافة الأرض إليه ، ثم نقول في تفسير كونه خليفة وجهان : أنه تعالى فوض إلى
الأول : جعلناك تخلف من تقدمك من الأنبياء في الدعاء إلى الله تعالى ، وفي سياسة الناس لأن خليفة الرجل من يخلفه ، وذلك إنما يعقل في حق من يصح عليه الغيبة ، وذلك على الله محال .
الثاني : إنا جعلناك مالكا للناس ونافذ الحكم فيهم ، فبهذا التأويل يسمى خليفة ، ومنه يقال خلفاء الله في أرضه ، وحاصله أن خليفة الرجل يكون نافذ الحكم في رعيته ، وحقيقة الخلافة ممتنعة في حق الله ، فلما امتنعت الحقيقة جعلت اللفظة مفيدة اللزوم في تلك الحقيقة وهو نفاذ الحكم .
ثم قال تعالى : ( فاحكم بين الناس بالحق ) واعلم أن الإنسان خلق مدنيا بالطبع ، لأن الإنسان الواحد لا ينتظم مصالحه إلا عند وجود مدينة تامة حتى أن هذا يحرث ، وذلك يطحن ، وذلك يخبز ، وذلك ينسج ، وهذا يخيط ، وبالجملة فيكون كل واحد منهم مشغولا بمهم ، وينتظم من أعمال الجميع مصالح الجميع . فثبت أن الإنسان مدني بالطبع ، وعند اجتماعهم في الموضع الواحد يحصل بينهم منازعات ومخاصمات ، ولا بد من إنسان قادر قاهر يقطع تلك الخصومات وذلك هو السلطان الذي ينفذ حكمه على الكل ، فثبت أنه قاهر سائس ، ثم إن ذلك السلطان القاهر السائس إن كان حكمه على وفق هواه ولطلب مصالح دنياه عظم ضرره على الخلق فإنه يجعل الرعية فداء لنفسه ويتوسل بهم إلى تحصيل مقاصد نفسه ، وذلك يفضي إلى تخريب العالم ووقوع الهرج والمرج في الخلق ، وذلك يفضي بالآخرة إلى هلاك ذلك الملك ، أما إذا كانت أحكام ذلك الملك مطابقة للشريعة الحقة الإلهية انتظمت مصالح العالم ، واتسعت أبواب الخيرات على أحسن الوجوه . فهذا هو المراد من قولهم : ( لا ينتظم مصالح الخلق إلا بسلطان فاحكم بين الناس بالحق ) يعني [ ص: 175 ] لا بد من حاكم بين الناس بالحق فكن أنت ذلك الحاكم . ثم قال : ( ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ) الآية ، وتفسيره أن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل الله ، والضلال عن سبيل الله يوجب سوء العذاب ، فينتج أن متابعة الهوى توجب سوء العذاب .
أما المقام الأول : وهو أن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل الله ، فتقريره أن الهوى يدعو إلى الاستغراق في اللذات الجسمانية ، والاستغراق فيها يمنع من الاشتغال بطلب السعادات الروحانية التي هي الباقيات الصالحات ، لأنهما حالتان متضادتان فبقدر ما يزداد أحدهما ينقص الآخر .
أما المقام الثاني : وهو أن الضلال عن سبيل الله يوجب سوء العذاب ، فالأمر فيه ظاهر لأن الإنسان إذا عظم إلفه بهذه الجسمانيات ونسي بالكلية أحواله الروحانيات ، فإذا مات فقد فارق المحبوب والمعشوق ، ودخل ديارا ليس له بأهل تلك الديار إلف وليس لعينه قوة مطالعة أنوار تلك الديار ، فكأنه فارق المحبوب ووصل إلى المكروه ، فكان لا محالة في أعظم العناء والبلاء ، فثبت أن متابعة الهوى توجب الضلال عن سبيل الله ، وثبت أن الضلال عن سبيل الله يوجب العذاب ، وهذا بيان في غاية الكمال .
ثم قال تعالى : ( بما نسوا يوم الحساب ) يعني أن السبب الأول لحصول ذلك الضلال هو نسيان يوم الحساب ، لأنه لو كان متذكرا ليوم الحساب لما أعرض عن إعداد الزاد ليوم المعاد ، ولما صار مستغرقا في هذه اللذات الفاسدة .
روي عن بعض خلفاء بني مروان أنه قال هل سمعت ما بلغنا أن الخليفة لا يجري عليه القلم ولا يكتب عليه معصية ؟ فقال : يا أمير المؤمنين ، الخلفاء أفضل أم الأنبياء ؟! ثم تلا هذه الآية : ( لعمر بن عبد العزيز إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ) . ثم قال تعالى : ( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ) ونظيره قوله تعالى : ( ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار ) [آل عمران : 191] وقوله تعالى : ( ما خلق الله السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق ) [الروم : 8] وفيه مسائل :
المسألة الأولى : احتج الجبائي بهذه الآية على أنه تعالى لا يجوز أن يكون خالقا لأعمال العباد ، قال لأنها مشتملة على الكفر والفسق ، وكلها أباطيل . فلما بين تعالى أنه ما خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا دل هذا على أنه تعالى لم يخلق أعمال العباد . ومثله قوله تعالى : ( وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق ) وعند المجبرة أنه خلق الكافر لأجل أن يكفر ، والكفر باطل ، وقد خلق الباطل ، ثم أكد تعالى ذلك بأن قال : ( ذلك ظن الذين كفروا ) أي كل من قال بهذا القول فهو كافر ، فهذا تصريح بأن مذهب المجبرة عين الكفر ، واحتج أصحابنا رحمهم الله بأن هذه الآية تدل على ، فقالوا : هذه الآية تدل على كونه تعالى خالقا لكل ما بين السماوات والأرض ، وأعمال العباد حاصلة بين السماء والأرض ، فوجب أن يكون الله تعالى خالقا لها . كونه تعالى خالقا لأعمال العباد
المسألة الثانية : هذه الآية دالة على ، وذلك لأنه تعالى خلق الخلق في هذا العالم ، فإما أن يقال إنه خلقهم للإضرار أو للإنفاع أو لا للإنفاع ولا للإضرار ، والأول باطل لأن ذلك لا [ ص: 176 ] يليق بالرحيم الكريم ، والثالث أيضا باطل لأن هذه الحالة حاصلة حين كانوا معدومين ، فلم يبق إلا أن يقال إنه خلقهم للإنفاع ، فنقول وذلك الإنفاع ، إما أن يكون في حياة الدنيا أو في حياة الآخرة ، والأول باطل لأن منافع الدنيا قليلة ومضارها كثيرة ، وتحمل المضار الكثيرة للمنفعة القليلة لا يليق بالحكمة ، ولما بطل هذا القسم ثبت القول بوجود حياة أخرى بعد هذه الحياة الدنيوية ، وذلك هو القول بالحشر والنشر والقيامة ، واعلم أن هذا الدليل يمكن تقريره من وجوه كثيرة ، وقد لخصناها في أول سورة يونس بالاستقصاء ، فلا سبيل إلى التكرير فثبت بما ذكرنا أنه تعالى ما خلق السماء والأرض وما بينهما باطلا ، وإذا لم يكن خلقهما باطلا كان القول بالحشر والنشر لازما ، وأن كل من أنكر القول بالحشر والنشر كان شاكا في حكمة الله في خلق السماء والأرض ، وهذا هو المراد من قوله : ( صحة القول بالحشر والنشر والقيامة ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ) ولما بين الله تعالى على سبيل الإجمال أن إنكار الحشر والنشر يوجب الشك في حكمة الله تعالى بين ذلك على سبيل التفصيل ، فقال : ( أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار ) وتقريره أنا نرى في الدنيا من أطاع الله واحترز عن معصيته في الفقر والزمانة وأنواع البلاء ، ونرى الكفرة والفساق في الراحة والغبطة ، فلو لم يكن حشر ونشر ومعاد فحينئذ يكون حال المطيع أدون من حال العاصي ، وذلك لا يليق بحكمة الحكيم الرحيم ، وإذا كان ذلك قادحا في الحكمة ، ثبت أن إنكار الحشر والنشر يوجب إنكار حكمة الله .
ثم قال تعالى : ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قالت المعتزلة دلت الآية على أنه تعالى إنما أنزل هذا القرآن لأجل الخير والرحمة والهداية ، وهذا يفيد أمرين :
أحدهما : أن برعاية المصالح . أفعال الله معللة
والثاني : أنه تعالى أراد الإيمان والخير والطاعة من الكل بخلاف قول من يقول إنه أراد الكفر من الكافر .
المسألة الثانية : في تقرير نظم هذه الآيات فنقول : لسائل أن يسأل فيقول إنه تعالى حكى في أول السورة عن المستهزئين من الكفار ، أنهم بالغوا في إنكار البعث والقيامة ، وقالوا : ( ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب ) ولما حكى الله تعالى عنهم ذلك لم يذكر الجواب ، بل قال : ( اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ) ومعلوم أنه لا تعلق لذكر داود عليه السلام بأن القول بالقيامة حق ، ثم إنه تعالى أطنب في شرح قصة داود ، ثم أتبعه بقوله : ( وما خلقنا السماء والأرض ) ومعلوم أنه لا تعلق لمسألة إثبات حكمة الله بقصة داود ، ثم لما ذكر إثبات حكمة الله وفرع عليه إثبات أن القول بالحشر والنشر حق ، ذكر بعده أن القرآن كتاب شريف فاضل كثير النفع والخير ، ولا تعلق لهذا الفصل بالكلمات المتقدمة ، وإذا كان كذلك كانت هذه الفصول فصولا متباينة لا تعلق للبعض منها بالبعض ، فكيف يليق بهذا الموضع وصف القرآن بكونه كتابا شريفا فاضلا ؟ هذا تمام السؤال .
والجواب أن نقول : إن العقلاء قالوا من ابتلي بخصم جاهل مصر متعصب ، ورآه قد خاض في ذلك التعصب والإصرار ، وجب عليه أن يقطع الكلام معه في تلك المسألة ، لأنه كلما كان خوضه في تقريره أكثر كانت نفرته عن القبول أشد ، فالطريق حينئذ أن يقطع الكلام معه في تلك المسألة ، وأن يخوض في كلام آخر أجنبي عن المسألة الأولى بالكلية ، ويطنب في ذلك الكلام الأجنبي ، بحيث ينسى ذلك المتعصب تلك المسألة الأولى ، فإذا اشتغل خاطره بهذا الكلام الأجنبي ونسي المسألة الأولى ، فحينئذ [ ص: 177 ] يدرج في أثناء الكلام في هذا الفصل الأجنبي مقدمة مناسبة لذلك المطلوب الأول ، فإن ذلك المتعصب يسلم هذه المقدمة ، فإذا سلمها ، فحينئذ يتمسك بها في إثبات المطلوب الأول ، وحينئذ يصير ذلك الخصم المتعصب منقطعا مفحما ، إذا عرفت هذا فنقول : إن الكفار بلغوا في إنكار الحشر والنشر والقيامة إلى حيث قالوا على سبيل الاستهزاء : ( ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب ) فقال : يا محمد ، اقطع الكلام معهم في هذه المسألة ، واشرع في كلام آخر أجنبي بالكلية عن هذه المسألة ، وهي قصة داود عليه السلام ، فإن من المعلوم أنه لا تعلق لهذه القصة بمسألة الحشر والنشر ، ثم إنه تعالى أطنب في شرح تلك القصة ، ثم قال في آخر القصة : ( ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ) وكل من سمع هذا قال نعم ما فعل حيث أمره بالحكم بالحق ، ثم كأنه تعالى قال : وأنا لا آمرك بالحق فقط ، بل أنا مع أني رب العالمين لا أفعل إلا بالحق ، ولا أقضي بالباطل ، فههنا الخصم يقول نعم ما فعل حيث لم يقض إلا بالحق ، فعند هذا يقال لما سلمت أن حكم الله يجب أن يكون بالحق لا بالباطل ، لزمك أن تسلم صحة القول بالحشر والنشر ، لأنه لو لم يحصل ذلك لزم أن يكون الكافر راجحا على المسلم في إيصال الخيرات إليه ، وذلك ضد الحكمة وعين الباطل ، فبهذا الطريق اللطيف أورد الله تعالى الإلزام القاطع على منكري الحشر والنشر إيرادا لا يمكنهم الخلاص عنه ، فصار ذلك الخصم الذي بلغ في إنكار المعاد إلى حد الاستهزاء مفحما ملزما بهذا الطريق ، ولما ذكر الله تعالى هذه الطريقة الدقيقة في الإلزام في القرآن ، لا جرم وصف القرآن بالكمال والفضل ، فقال : ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب ) فإن من لم يتدبر ولم يتأمل ولم يساعده التوفيق الإلهي لم يقف على هذه الأسرار العجيبة المذكورة في هذا القرآن العظيم ، حيث يراه في ظاهر الحال مقرونا بسوء الترتيب ، وهو في الحقيقة مشتمل على أكمل جهات الترتيب ، فهذا ما حضرنا في تفسير هذه الآيات ، وبالله التوفيق .