( قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين )
قوله تعالى : ( قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين )
اعلم أنه تعالى لما حكى في أول السورة أن محمدا صلى الله عليه وسلم لما دعا الناس إلى أنه لا إله إلا إله واحد ، وإلى أنه رسول مبين من عند الله ، وإلى أن القول بالقيامة حق ، فأولئك الكفار أظهروا السفاهة وقالوا إنه ساحر كذاب ، واستهزءوا بقوله . ثم إنه تعالى ذكر قصص الأنبياء لوجهين :
الأول : ليصير ذلك حاملا لمحمد صلى الله عليه وسلم على . التأسي بالأنبياء عليهم السلام في الصبر على سفاهة القوم
والثاني : ليصير ذلك رادعا للكفار على الإصرار على الكفر والسفاهة وداعيا إلى قبول الإيمان ، ولما تمم الله تعالى ذلك الطريق أردفه بطريق آخر وهو شرح نعيم أهل الثواب وشرح عقاب أهل العقاب . فلما تمم الله تعالى هذه البيانات عاد إلى تقرير المطالب المذكورة في أول السورة وهي ، فقال : قل يا تقدير التوحيد والنبوة والبعث محمد إنما أنا منذر ولا بد من الإقرار بأنه ما من إله إلا الله الواحد القهار ، فإن الترتيب الصحيح أن نذكر شبهات الخصوم أولا ويجاب عنها ، ثم نذكر عقيبها الدلائل الدالة على صحة المطلوب ، فكذا ههنا أجاب الله تعالى عن شبهتهم ونبه على فساد كلماتهم ، ثم ذكر عقيبه ما يدل على صحة هذه المطالب ، لأن إزالة ما لا ينبغي مقدمة على إثبات ما ينبغي ، وغسل اللوح من النقوش الفاسدة مقدم على كتب النقوش الصحيحة فيه ، ومن نظر في هذا الترتيب اعترف بأن الكلام من أول السورة إلى آخرها قد جاء على أحسن وجوه الترتيب والنظم .
أما قوله : ( قل إنما أنا منذر ) يعني أبلغ أحوال عقاب من أنكر التوحيد والنبوة والمعاد ، وأحوال ثواب من أقر بها ، وكما بدأ في أول السورة بأدلة التوحيد حيث حكى عنهم أنهم قالوا ( أجعل الآلهة إلها واحدا ) فكذلك بدأ ههنا بتقرير التوحيد فقال : ( وما من إله إلا الله الواحد القهار ) وفي هذه الكلمة إشارة إلى ، وبيانه أن الذي يجعل شريكا له في الإلهية ، إما أن يكون موجودا قادرا على الإطلاق على التصرف في العالم أو لا يكون كذلك ، بل يكون جمادا عاجزا . الدليل الدال على كونه منزها عن الشريك والنظير
والأول : باطل لأنه لو كان شريكه قادرا على الإطلاق لم يكن هو قادرا قاهرا ، لأن بتقدير أن يريد هو شيئا ويريد شريكه ضد ذلك الشيء لم يكن حصول أحد الأمرين أولى من الآخر ، فيفضي إلى اندفاع كل واحد منهما بالآخر ، وحينئذ لا يكون قادرا قاهرا بل كان عاجزا ضعيفا ، والعاجز لا يصلح للإلهية ، فقوله : ( إلا الله الواحد القهار ) إشارة إلى أن كونه قهارا يدل على كونه واحدا .
وأما الثاني : وهو أن يقال إن الذي جعل [ ص: 196 ] شريكا له لا يقدر على شيء البتة مثل هذه الأوثان ، فهذا أيضا فاسد لأن صريح العقل يحكم بأن عبادة الإله القادر القاهر أولى من عبادة الجماد الذي لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا فقوله : ( وما من إله إلا الله الواحد القهار ) يدل على هذه الدلائل ، واعلم أن كونه سبحانه قهارا مشعر بالترهيب والتخويف ، فلما ذكر ذلك أردفه بما يدل على الرجاء والترغيب فقال : ( رب السماوات والأرض وما بينهما العزيز الغفار ) فكونه ربا مشعر بالتربية والإحسان والكرم والجود ، وكونه غفارا مشعر بالترغيب ، وهذا الموجود هو الذي تجب عبادته ، لأنه هو الذي يخشى عقابه ويرجى فضله وثوابه . ونذكر طريقة أخرى في تفسير هذه الآيات ، فنقول إنه تعالى ذكر من صفاته في هذا الموضع خمسا الواحد والقهار والرب والعزيز والغفار ، أما كونه واحدا فهو الذي وقع الخلاف فيه بين أهل الحق وبين المشركين ، واستدل تعالى على كونه واحدا بكونه قهارا ، وقد بينا وجه هذه الدلالة إلا أن كونه قهارا وإن دل على إلا أنه يوجب الخوف الشديد فأردفه تعالى بذكر صفات ثلاث دالة على الرحمة والفضل والكرم . إثبات الوحدانية
أولها : كونه ربا للسماوات والأرض وما بينهما وهذا إنما تتم معرفته بالنظر في آثار حكمة الله تعالى في خلق السماوات والأرض ، والعناصر الأربعة والمواليد الثلاثة ، وذلك بحر لا ساحل له ، فإذا تأملت في آثار حكمته ورحمته في خلق هذه الأشياء عرفت حينئذ تربيته للكل ، وذلك يفيد الرجاء العظيم .
وثانيها : كونه عزيزا ، والفائدة في ذكره أن لقائل أن يقول : هب أنه رب ومرب وكريم إلا أنه غير قادر على كل المقدورات ، فأجاب عنه بأنه عزيز أي قادر على كل الممكنات ، فهو يغلب الكل ولا يغلبه شيء .
وثالثها : كونه غفارا والفائدة في ذكره أن لقائل أن يقول : هب أنه رب ومحسن ولكنه يكون كذلك في حق المطيعين المخلصين في العبادة ، فأجاب عنه بأن من بقي على الكفر سبعين سنة ثم تاب فإني أزيل اسمه عن ديوان المذنبين وأستر عليه بفضلي ورحمتي جميع ذنوبه وأوصله إلى درجات الأبرار ، واعلم أنه تعالى لما بين ذلك قال : ( قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون ) وهذا النبأ العظيم يحتمل وجوها فيمكن أن يكون المراد أن القول بأن الإله واحد نبأ عظيم ، ويمكن أن يقال المراد أن القول بالنبوة نبأ عظيم ، ويمكن أن يقال المراد أن القول بإثبات الحشر والنشر والقيامة نبأ عظيم ، وذلك لأن هذه المطالب الثلاثة كانت مذكورة في أول السورة ، ولأجلها انجر الكلام إلى كل ما سبق ذكره ، ويمكن أيضا أن يكون المراد كون القرآن معجزا لأن هذا أيضا قد تقدم ذكره في قوله : ( كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته ) [ص : 29] وهؤلاء الأقوام أعرضوا عنه على ما قال ( قل هو نبأ عظيم أنتم عنه معرضون ) واعلم أن قوله : ( أنتم عنه معرضون ) ترغيب في النظر والاستدلال ومنع من ، لأن هذه المطالب مطالب شريفة عالية ، فإن بتقدير أن يكون الإنسان فيها على الحق يفوز بأعظم أبواب السعادة ، وبتقدير أن يكون الإنسان فيها على الباطل وقع في أعظم أبواب الشقاوة ، فكانت هذه المباحث أنباء عظيمة ومطالب عالية بهية ، وصريح العقل يوجب على الإنسان أن يأتي فيها بالاحتياط التام ، وأن لا يكتفي بالمساهلة والمسامحة . التقليد
أما قوله تعالى : ( ما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون ) فاعلم أنه تعالى رغب المكلفين في الاحتياط في هذه المسائل الأربع ، وبالغ في ذلك الترغيب من وجوه :
الأول : أن كل واحد منها نبأ عظيم ، والنبأ العظيم يجب الاحتياط فيه .
الثاني : أن الملأ الأعلى اختصموا . وأحسن ما قيل فيه أنه تعالى لما قال : [ ص: 197 ] ( إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ) [ البقرة : 30 ] والمعنى أنهم قالوا أي فائدة في خلق البشر مع أنهم يشتغلون بقضاء الشهوة وهو المراد من قوله : ( من يفسد فيها ) وبإمضاء الغضب وهو المراد من قوله : ( ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ) فقال الله سبحانه وتعالى : ( إني أعلم ما لا تعلمون ) وتقرير هذا الجواب والله أعلم ، أن يقال إن المخلوقات بحسب القسمة العقلية على أقسام أربعة :
أحدها : الذين حصل لهم العقل والحكمة ، ولم تحصل لهم النفس والشهوة وهم فقط . الملائكة
ثانيها : الذين حصل لهم النفس والشهوة ، ولم يحصل لهم العلم والحكمة وهي . البهائم
وثالثها : الأشياء الخالية عن القسمين ، وهي الجمادات وبقي في التقسيم ( قسم رابع ) وهو الذي حصل فيه الأمران وهو الإنسان ، والمقصود من ليس هو الجهل والتقليد والتكبر والتمرد ، فإن كل ذلك صفات البهائم والسباع ، بل المقصود من تخليقه ظهور العلم والحكمة والطاعة ، فقوله ( تخليق الإنسان إني أعلم ما لا تعلمون ) يعني أن هذا النوع من المخلوقات ، وإن حصلت فيه الشهوة الداعية إلى الفساد والغضب الحامل له على سفك الدماء ، لكن حصل فيه العقل الذي يدعوه إلى المعرفة والمحبة والطاعة والخدمة ، وإذا ثبت أنه تعالى إنما أجاب الملائكة بهذا الجواب وجب على الإنسان أن يسعى في تحصيل هذه الصفات ، وأن يجتهد في اكتسابها ، وأن يحترز عن طريقة الجهل والتقليد والإصرار والتكبر ، وإذا كان كذلك فكل من وقف على كيفية هذه الواقعة صار وقوفه عليها داعيا له إلى الجد والاجتهاد في اكتساب المعارف الحقة والأخلاق الفاضلة زاجرا له عن أضدادها ومقابلاتها ، فلهذا السبب ذكر الله تعالى هذا الكلام في هذا المقام . فإن قيل : الملائكة لا يجوز أن يقال إنهم اختصموا بسبب قولهم : ( أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ) [البقرة : 30] فإن المخاصمة مع الله كفر ، قلنا لا شك أنه جرى هناك سؤال وجواب ، وذلك يشابه المخاصمة والمناظرة والمشابهة علة لجواز المجاز ، فلهذا السبب حسن إطلاق لفظ المخاصمة عليه ، ولما أمر الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم أن يذكر هذا الكلام على سبيل الرمز أمره أن يقول : ( إن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين ) يعني أنا ما عرفت هذه المخاصمة إلا بالوحي ، وإنما أوحى الله إلي هذه القصة لأنذركم بها ولتصير هذه القصة حاملة لكم على الإخلاص في الطاعة والاحتراز عن الجهل والتقليد .