قوله تعالى : ( خلق السماوات والأرض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم له الملك لا إله إلا هو فأنى تصرفون إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم ولا تزر وازرة وزر أخرى ثم إلى ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم تعملون إنه عليم بذات الصدور )
اعلم أن الآية المتقدمة دلت على أنه تعالى بين كونه منزها عن الولد بكونه إلها واحدا ، وقهارا غالبا ، أي : كامل القدرة ، فلما بنى تلك المسألة على هذه الأصول ذكر عقيبها ما يدل على كمال القدرة وعلى كمال الاستغناء ، وأيضا فإنه تعالى طعن في إلهية الأصنام ، فذكر عقيبها الصفات التي باعتبارها تحصل الإلهية ، واعلم أنا بينا في مواضع من هذا الكتاب أن الدلائل التي ذكرها الله تعالى في إثبات إلهيته ، إما أن تكون فلكية أو عنصرية ، أما الفلكية فأقسام :
أحدها : خلق السماوات والأرض ، وهذا المعنى يدل على وجود الإله القادر من وجوه كثيرة ، شرحناها في تفسير قوله تعالى : ( الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض ) [ الأنعام : 1 ] .
[ ص: 213 ] والثاني : ، وهو المراد ههنا من قوله : ( اختلاف أحوال الليل والنهار يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل ) وذلك لأن النور والظلمة عسكران مهيبان عظيمان ، وفي كل يوم يغلب هذا ذاك تارة ، وذاك هذا أخرى . وذلك يدل على أن كل واحد منهما مغلوب مقهور ، ولا بد من غالب قاهر لهما يكونان تحت تدبيره وقهره ، وهو الله سبحانه وتعالى ، والمراد من هذا التكوير أنه يزيد في كل واحد منهما بقدر ما ينقص عن الآخر ، والمراد من تكوير الليل والنهار ما ورد في الحديث : أي : من الإدبار بعد الإقبال ، واعلم أنه سبحانه وتعالى عبر عن هذا المعنى بقوله : ( نعوذ بالله من الحور بعد الكور يكور الليل على النهار ) وبقوله : ( يغشي الليل النهار ) [ الأعراف : 54 ] ، وبقوله : ( يولج الليل في النهار ) [ الحج : 61 ] ، وبقوله : ( وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر ) [ الفرقان : 62 ] .
والثالث : اعتبار أحوال الكواكب لا سيما الشمس والقمر ، فإن الشمس سلطان النهار ، والقمر سلطان الليل ، وأكثر مصالح هذا العالم مربوطة بهما ، وقوله : ( كل يجري لأجل مسمى ) الأجل المسمى يوم القيامة ، لا يزالان يجريان إلى هذا اليوم ، فإذا كان يوم القيامة ذهبا ، ونظيره قوله تعالى : ( وجمع الشمس والقمر ) [ القيامة : 9 ] والمراد من هذا التسخير أن هذه الأفلاك تدور كدوران المنجنون على حد واحد إلى يوم القيامة ، وعنده تطوى السماء كطي السجل للكتب .
ولما ذكر الله هذه الأنواع الثلاثة من الدلائل الفلكية قال : ( ألا هو العزيز الغفار ) والمعنى : أن خلق هذه الأجرام العظيمة وإن دل على كونه عزيزا ، أي : كامل القدرة ، إلا أنه غفار عظيم الرحمة والفضل والإحسان ، فإنه لما كان الإخبار عن كونه عظيم القدرة يوجب الخوف والرهبة ، فكونه غفارا يوجب كثرة الرحمة ، وكثرة الرحمة توجب الرجاء والرغبة ، ثم إنه تعالى أتبع ذكر الدلائل الفلكية بذكر الدلائل المأخوذة من هذا العالم الأسفل ، فبدأ بذكر الإنسان فقال : ( خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها ) ودلالة تكون الإنسان على الإله المختار - قد سبق بيانها مرارا كثيرة ، فإن قيل : كيف جاز أن يقول : ( خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها ) والزوج مخلوق قبل خلقهم ؟ أجابوا عنه من وجوه :
الأول : أن كلمة " ثم " كما تجيء لبيان كون إحدى الواقعتين متأخرة عن الثانية - فكذلك تجيء لبيان تأخر أحد الكلامين عن الآخر ، كقول القائل : بلغني ما صنعت اليوم ، ثم ما صنعت أمس كان أعجب ، ويقول أيضا : قد أعطيتك اليوم شيئا ، ثم الذي أعطيتك أمس أكثر .
الثاني : أن يكون التقدير خلقكم من نفس خلقت وحدها ، ثم جعل منها زوجها .
الثالث : أخرج الله تعالى ذرية آدم من ظهره كالذر ، ثم خلق بعد ذلك حواء .
واعلم أنه تعالى لما ذكر ذكر عقيبه الاستدلال بوجود الحيوان عليه فقال : ( الاستدلال بخلقه الإنسان على وجود الصانع وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج ) وهي : الإبل والبقر ، والضأن والمعز ، وقد بينا كيفية دلالة هذه الحيوانات على وجود الصانع في قوله : ( والأنعام خلقها لكم فيها دفء ) [ النحل : 5 ] ، وفي تفسير قوله تعالى : ( وأنزل لكم ) وجوه :
الأول : أن قضاء الله وتقديره وحكمه موصوف بالنزول من السماء لأجل أنه كتب في اللوح المحفوظ كل كائن يكون .
الثاني : أن شيئا من الحيوان لا يعيش إلا بالنبات ، والنبات لا يقوم إلا بالماء والتراب ، والماء ينزل من السماء ، فصار التقدير كأنه أنزلها .
الثالث : أنه تعالى خلقها في الجنة ثم أنزلها إلى الأرض ، وقوله : ( ثمانية أزواج ) أي : ذكر وأنثى من الإبل والبقر والضأن والمعز ، والزوج اسم لكل واحد معه آخر ، فإذا انفرد فهو فرد منه ، قال تعالى : ( فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى ) [ القيامة : 39 ] .
[ ص: 214 ] ثم قال تعالى : ( يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق ) ، وفيه أبحاث :
الأول : قرأ حمزة بكسر الألف والميم ، والكسائي بكسر الهمزة وفتح الميم ، والباقون " أمهاتكم " بضم الألف وفتح الميم .
الثاني : أنه تعالى لما ذكر تخليق الناس من شخص واحد وهو آدم عليه السلام - أردفه ، وإنما خصها بالذكر ؛ لأنها أشرف الحيوانات بعد الإنسان ، ثم ذكر عقيب ذكرهما حالة مشتركة بين الإنسان وبين الأنعام ، وهي كونها مخلوقة في بطون أمهاتهم ، وقوله : ( بتخليق الأنعام خلقا من بعد خلق ) المراد منه ما ذكره الله تعالى في قوله : ( ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين ) [ المؤمنون : 14 ] . وقوله : ( في ظلمات ثلاث ) قيل : الظلمات الثلاث : البطن والرحم والمشيمة ، وقيل : الصلب والرحم والبطن ، ووجه الاستدلال بهذه الحالات قد ذكرناه في قوله : ( هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء ) [ آل عمران : 6 ] .
واعلم أنه تعالى لما شرح هذه الدلائل ووصفها قال : ( ذلكم الله ربكم ) أي : ذلكم الشيء الذي عرفتم عجائب أفعاله هو الله ربكم ، وفي هذه الآية دلالة على ، وعلى كونه سبحانه وتعالى منزها عن الأجزاء والأعضاء ، وذلك أنه تعالى عندما أراد أن يعرف عباده ذاته المخصوصة لم يذكر إلا كونه فاعلا لهذه الأشياء ، ولو كان جسما مركبا من الأعضاء لكان تعريفه بتلك الأجزاء والأعضاء تعريفا للشيء بأجزاء حقيقته ، وأما تعريفه بأحواله وأفعاله وآثاره فذلك تعريف له بأمور خارجة عن ذاته ، والتعريف الأول أكمل من الثاني ، ولو كان ذلك القسم ممكنا لكان الاكتفاء بهذا القسم الثاني تقصيرا ونقصا ، وذلك غير جائز ، فعلمنا أن الاكتفاء بهذا القسم إنما حسن لأن القسم الأول محال ممتنع الوجود ، وذلك يدل على كونه سبحانه وتعالى متعاليا عن الجسمية والأعضاء والأجزاء . كونه منزها عن الجسمية والمكانية
ثم قال تعالى : ( له الملك ) وهذا يفيد الحصر ، أي : له الملك لا لغيره ، ولما ثبت أنه لا ملك إلا له ، وجب القول بأنه لا إله إلا هو ، لأنه لو ثبت إله آخر ، فذلك الإله إما أن يكون له الملك أو لا يكون له الملك ، فإن كان له الملك فحينئذ يكون كل واحد منهما مالكا قادرا ، ويجري بينهما التمانع كما ثبت في قوله : ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) [ الأنبياء : 22 ] وذلك محال ، وإن لم يكن للثاني شيء من القدرة والملك فيكون ناقصا ولا يصلح للإلهية ، فثبت أنه لما دل الدليل على أنه لا ملك إلا لله ، وجب أن يقال : . لا إله للعالمين ولا معبود للخلق أجمعين إلا الله الأحد الحق الصمد
ثم اعلم أنه سبحانه لما بين بهذه الدلائل كمال قدرة الله - سبحانه - وحكمته ورحمته ، رتب عليه تزييف طريقة المشركين والضالين من وجوه :
الأول : قوله : ( فأنى تصرفون ) يحتج به أصحابنا ويحتج به المعتزلة ، أما أصحابنا فوجه الاستدلال لهم بهذه الآية : أنها صريحة في أنهم لم ينصرفوا بأنفسهم عن هذه البيانات ، بل صرفها عنهم غيرهم ، وما ذاك الغير إلا الله ، وأيضا فدليل العقل يقوي ذلك ، لأن كل واحد يريد لنفسه تحصيل الحق والصواب ، فلما لم يحصل ذلك ، وإنما حصل الجهل والضلال علمنا أنه من غيره لا منه ، وأما المعتزلة فوجه الاستدلال لهم : أن قوله ( فأنى تصرفون ) تعجب من هذا الانصراف ، ولو كان الفاعل لذلك الصرف هو الله تعالى لم يبق لهذا التعجب معنى .
[ ص: 215 ] ثم قال تعالى : ( إن تكفروا فإن الله غني عنكم ) والمعنى أن ، وذلك لأنه تعالى غني على الإطلاق ، ويمتنع في حقه جر المنفعة ودفع المضرة ، وإنما قلنا : إنه غني لوجوه : الله تعالى ما كلف المكلفين ليجر إلى نفسه منفعة ، أو ليدفع عن نفسه مضرة
الأول : أنه واجب الوجود لذاته ، وواجب الوجود في جميع صفاته ، ومن كان كذلك كان غنيا على الإطلاق .
الثاني : أنه لو كان محتاجا لكانت تلك الحاجة إما قديمة وإما حادثة .
والأول باطل ، وإلا لزم أن يخلق في الأزل ما كان محتاجا إليه ، وذلك محال ، لأن الخلق والأزل متناقض ، والثاني باطل ، لأن الحاجة نقصان ، والحكيم لا يدعوه الداعي إلى تحصيل النقصان لنفسه .
الثالث : هب أنه يبقى الشك في أنه هل تصح الشهوة والنفرة والحاجة عليه أم لا ؟ أما من المعلوم بالضرورة أن الإله القادر على خلق السماوات والأرض والشمس والقمر والنجوم والعرش والكرسي ، والعناصر الأربعة ، والمواليد الثلاثة - يمتنع أن ينتفع بصلاة زيد وصيام عمرو ، وأن يضر بعدم صلاة هذا وعدم صيام ذاك ، فثبت بما ذكرنا أن جميع العالمين لو كفروا وأصروا على الجهل ، فإن الله غني عنهم .
ثم قال تعالى بعده : ( ولا يرضى لعباده الكفر ) يعني أنه وإن كان لا ينفعه إيمان ولا يضره كفران إلا أنه لا يرضى بالكفر ، واحتج الجبائي بهذه الآية من وجهين :
الأول : أن ، وإنه من جهة ما خلقه حق وصواب ، قال : ولو كان الأمر كذلك لكان قد رضي الكفر من الوجه الذي خلقه ، وذلك ضد الآية . المجبرة يقولون : إن الله تعالى خلق كفر العباد
الثاني : لو كان الكفر بقضاء الله تعالى لوجب علينا أن نرضى به ، لأن واجب ، وحيث اجتمعت الأمة على أن الرضا بقضاء الله تعالى كفر ، ثبت أنه ليس بقضاء الله ، وليس أيضا برضاء الله تعالى ، وأجاب الأصحاب عن هذا الاستدلال من وجوه : الرضا بالكفر
الأول : أن عادة القرآن جارية بتخصيص لفظ العباد بالمؤمنين ، قال الله تعالى : ( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا ) [ الفرقان : 63 ] وقال : ( عينا يشرب بها عباد الله ) [ الإنسان : 6 ] ، وقال : ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ) [ الحجر : 42 ] ، فعلى هذا التقدير قوله : ( ولا يرضى لعباده الكفر ) ولا يرضى للمؤمنين الكفر ، وذلك لا يضرنا .
الثاني : أنا نقول : ، ولا نقول : إنه برضا الله ، لأن الرضا عبارة عن المدح عليه والثناء بفعله ، قال الله تعالى : ( الكفر بإرادة الله تعالى لقد رضي الله عن المؤمنين ) [ الفتح : 18 ] أي يمدحهم ويثني عليهم .
الثالث : كان الشيخ الوالد ضياء الدين عمر رحمه الله يقول : الرضا عبارة عن ترك اللوم والاعتراض ، وليس عبارة عن الإرادة ، والدليل عليه قول : ابن دريد
رضيت قسرا وعلى القسر رضا من كان ذا سخط على صرف القضا
أثبت الرضا مع القسر ، وذلك يدل على ما قلناه .
والرابع : هب أن الرضا هو الإرادة ، إلا أن قوله : ( ولا يرضى لعباده الكفر ) عام ، فتخصيصه بالآيات الدالة على أنه تعالى يريد الكفر من الكافر كقوله تعالى : ( وما تشاءون إلا أن يشاء الله ) [ الإنسان : 30 ] والله أعلم .