(
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=82nindex.php?page=treesubj&link=29011_32016أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=83فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=84فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=85فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون )
قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=82أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أكثر منهم وأشد قوة وآثارا في الأرض فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=83فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=84فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=85فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون )
[ ص: 79 ] اعلم أنه تعالى راعى ترتيبا لطيفا في آخر هذه السورة ، وذلك أنه ذكر فصلا في دلائل الإلهية وكمال القدرة والرحمة والحكمة ، ثم أردفه بفضل التهديد والوعيد ، وهذا الفصل الذي وقع عليه ختم هذه السورة هو الفصل المشتمل على الوعيد ، والمقصود أن هؤلاء الكفار الذين يجادلون في آيات الله وحصل الكبر العظيم في صدورهم بهذا ، والسبب في ذلك كله طلب الرياسة والتقدم على الغير في المال والجاه .
فمن ترك الانقياد للحق لأجل طلب هذه الأشياء فقد باع الآخرة بالدنيا ، فبين تعالى أن هذه الطريقة فاسدة ؛ لأن
nindex.php?page=treesubj&link=29497الدنيا فانية ذاهبة ، واحتج عليه بقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=82أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ) يعني لو ساروا في أطراف الأرض لعرفوا أن
nindex.php?page=treesubj&link=18682_30539عاقبة المتكبرين المتمردين ، ليست إلا الهلاك والبوار ، مع أنهم كانوا أكثر عددا ومالا وجاها من هؤلاء المتأخرين ، فلما لم يستفيدوا من تلك المكنة العظيمة والدولة القاهرة إلا الخيبة والخسار ، والحسرة والبوار ، فكيف يكون حال هؤلاء الفقراء المساكين .
أما بيان أنهم كانوا أكثر من هؤلاء عددا فإنما يعرف في الأخبار ، وأما أنهم كانوا أشد قوة وآثارا في الأرض ؛ فلأنه قد بقيت آثارهم بحصون عظيمة بعدهم ، مثل الأهرام الموجودة
بمصر ، ومثل هذه البلاد العظيمة التي بناها الملوك المتقدمون ، ومثل ما حكى الله عنهم من أنهم كانوا ينحتون من الجبال بيوتا .
ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=82فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ) ما في قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=82فما أغنى عنهم ) نافية أو مضمنة معنى الاستفهام ومحلها النصب ، وما في قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=82ما كانوا يكسبون ) موصولة أو مصدرية ومحلها الرفع يعني أي شيء أغنى عنهم مكسوبهم أو كسبهم .
ثم بين تعالى أن أولئك الكفار لما جاءتهم رسلهم بالبينات والمعجزات فرحوا بما عندهم من العلم ، واعلم أن الضمير في قوله : ( فرحوا ) يحتمل أن يكون عائدا إلى الكفار ، وأن يكون عائدا إلى الرسل ، أما إذا قلنا إنه عائد إلى الكفار ، فذلك العلم الذي فرحوا به أي علم كان ؟ وفيه وجوه :
الأول : أن يكون المراد الأشياء التي كانوا يسمونها بالعلم ، وهي الشبهات التي حكاها الله عنهم في القرآن كقولهم (
nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=24وما يهلكنا إلا الدهر ) [ الجاثية : 24 ] وقولهم (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=148لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ) [ الأنعام : 148 ] وقولهم (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=78من يحيي العظام وهي رميم ) [ يس : 78 ] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=36ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا ) [ الكهف : 36 ] وكانوا يفرحون بذلك ويدفعون به علوم الأنبياء ، كما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=32كل حزب بما لديهم فرحون ) [ الروم : 32 ] ، الثاني : يجوز أن يكون المراد علوم الفلاسفة ، فإنهم كانوا إذا سمعوا بوحي الله دفعوه وصغروا علم الأنبياء إلى علومهم ، وعن
سقراط أنه سمع بمجيء بعض الأنبياء فقيل له : لو هاجرت ، فقال : نحن قوم مهديون فلا حاجة بنا إلى من يهدينا .
الثالث : يجوز أن يكون المراد علمهم بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها ، كما قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=7يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ) [ الروم : 7 ] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=30ذلك مبلغهم من العلم ) [ النجم : 30 ] ، فلما جاءهم الرسل بعلوم الديانات وهي معرفة الله تعالى ومعرفة العماد وتطهير النفس عن الرذائل لم يلتفتوا إليها واستهزئوا بها ، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفوائد من علمهم ، ففرحوا به .
أما إذا قلنا الضمير عائد إلى الأنبياء ففيه وجهان :
الأول : أن يجعل الفرح للرسل ، ومعناه أن الرسل لما رأوا من قومهم جهلا كاملا ، وإعراضا عن الحق وعلموا سوء عاقبتهم وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم وإعراضهم ، فرحوا بما أوتوا من العلم وشكروا الله عليه ، وحاق بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم . الثاني : أن يكون المراد فرحوا بما عند الرسل
[ ص: 80 ] من العلم فرح ضحك منه واستهزاء به ، كأنه قال : استهزئوا بالبينات ، وبما جاءوا به من علم الوحي فرحين ، ويدل عليه قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=83وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون ) .
ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=84فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين ) البأس شدة العذاب ومنه قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=165بعذاب بئيس ) [ الأعراف : 165 ] فإن قيل أي فرق بين قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=85فلم يك ينفعهم إيمانهم ) وبين ما لو قيل فلم ينفعهم إيمانهم ؟ قلنا هو مثل كان في نحو قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=35ما كان لله أن يتخذ من ولد ) [ مريم : 35 ] والمعنى فلم يصح ولم يستقم أن ينفعهم إيمانهم ، فإن قيل : اذكروا ضابطا في الوقت الذي لا ينفع الإتيان بالإيمان فيه ، قلنا إنه الوقت الذي يعاين فيه نزول ملائكة الرحمة والعذاب ؛ لأن في ذلك الوقت يصير المرء ملجأ إلى الإيمان ، فذلك الإيمان لا ينفع إنما ينفع مع القدرة على خلافه ، حتى يكون المرء مختارا ، أما إذا عاينوا علامات الآخرة فلا .
ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=85سنة الله التي قد خلت في عباده ) والمعنى أن عدم قبول الإيمان حال اليأس سنة الله مطردة في كل الأمم .
ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=85وخسر هنالك الكافرون ) فقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=85هنالك ) مستعار للزمان أي : وخسروا وقت رؤية البأس ، والله الهادي للصواب .
تم تفسير هذه السورة يوم السبت الثاني من ذي الحجة من سنة ثلاث وستمائة من الهجرة في بلدة
هراة .
يا من لا يبلغ أدنى ما استأثرت به من جلالك وعزتك أقصى نعوت الناعتين ، يا من تقاصرت عن الإحاطة بمبادئ أسرار كبريائه أفهام المتفكرين ، وأنظار المتأملين ، لا تجعلنا بفضلك ورحمتك في زمرة الخاسرين المبطلين ، ولا تجعلنا يوم القيامة من المحرومين ، فإنك أكرم الأكرمين .
والحمد لله رب العالمين ، وصلوات الله على سيدنا
محمد النبي وآله وصحبه أجمعين .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=82nindex.php?page=treesubj&link=29011_32016أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=83فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=84فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=85فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ )
قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=82أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=83فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=84فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=85فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ )
[ ص: 79 ] اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى رَاعَى تَرْتِيبًا لَطِيفًا فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ ذَكَرَ فَصْلًا فِي دَلَائِلِ الْإِلَهِيَّةِ وَكَمَالِ الْقُدْرَةِ وَالرَّحْمَةِ وَالْحِكْمَةِ ، ثُمَّ أَرْدَفَهُ بِفَضْلِ التَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ ، وَهَذَا الْفَصْلُ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ خَتْمُ هَذِهِ السُّورَةِ هُوَ الْفَصْلُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْوَعِيدِ ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ وَحَصَلَ الْكِبْرُ الْعَظِيمُ فِي صُدُورِهِمْ بِهَذَا ، وَالسَّبَبُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ طَلَبُ الرِّيَاسَةِ وَالتَّقَدُّمِ عَلَى الْغَيْرِ فِي الْمَالِ وَالْجَاهِ .
فَمَنْ تَرَكَ الِانْقِيَادَ لِلْحَقِّ لِأَجْلِ طَلَبِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَقَدْ بَاعَ الْآخِرَةَ بِالدُّنْيَا ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ هَذِهِ الطَّرِيقَةَ فَاسِدَةٌ ؛ لِأَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=29497الدُّنْيَا فَانِيَةٌ ذَاهِبَةٌ ، وَاحْتُجَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=82أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ) يَعْنِي لَوْ سَارُوا فِي أَطْرَافِ الْأَرْضِ لَعَرَفُوا أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=18682_30539عَاقِبَةَ الْمُتَكَبِّرِينَ الْمُتَمَرِّدِينَ ، لَيْسَتْ إِلَّا الْهَلَاكَ وَالْبَوَارَ ، مَعَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَكْثَرَ عَدَدًا وَمَالًا وَجَاهًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ ، فَلَمَّا لَمْ يَسْتَفِيدُوا مِنْ تِلْكَ الْمُكْنَةِ الْعَظِيمَةِ وَالدَّوْلَةِ الْقَاهِرَةِ إِلَّا الْخَيْبَةَ وَالْخَسَارَ ، وَالْحَسْرَةَ وَالْبَوَارَ ، فَكَيْفَ يَكُونُ حَالُ هَؤُلَاءِ الْفُقَرَاءِ الْمَسَاكِينِ .
أَمَّا بَيَانُ أَنَّهُمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ هَؤُلَاءِ عَدَدًا فَإِنَّمَا يُعْرَفُ فِي الْأَخْبَارِ ، وَأَمَّا أَنَّهُمْ كَانُوا أَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ ؛ فَلِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَتْ آثَارُهُمْ بِحُصُونٍ عَظِيمَةٍ بَعْدَهُمْ ، مِثْلُ الْأَهْرَامِ الْمَوْجُودَةِ
بِمِصْرَ ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْبِلَادِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي بَنَاهَا الْمُلُوكُ الْمُتَقَدِّمُونَ ، وَمِثْلُ مَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=82فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) مَا فِي قَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=82فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ ) نَافِيَةٌ أَوْ مُضَمَّنَةٌ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ وَمَحَلُّهَا النَّصْبُ ، وَمَا فِي قَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=82مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ) مَوْصُولَةٌ أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ وَمَحَلُّهَا الرَّفْعُ يَعْنِي أَيَّ شَيْءٍ أَغْنَى عَنْهُمْ مَكْسُوبُهُمْ أَوْ كَسْبُهُمْ .
ثُمَّ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ أُولَئِكَ الْكُفَّارَ لَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَالْمُعْجِزَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ : ( فَرِحُوا ) يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْكُفَّارِ ، وَأَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى الرُّسُلِ ، أَمَّا إِذَا قُلْنَا إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى الْكُفَّارِ ، فَذَلِكَ الْعِلْمُ الَّذِي فَرِحُوا بِهِ أَيُّ عِلْمٍ كَانَ ؟ وَفِيهِ وُجُوهٌ :
الْأَوَّلُ : أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْأَشْيَاءَ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهَا بِالْعِلْمِ ، وَهِيَ الشُّبُهَاتُ الَّتِي حَكَاهَا اللَّهُ عَنْهُمْ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِمْ (
nindex.php?page=tafseer&surano=45&ayano=24وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ ) [ الْجَاثِيَةِ : 24 ] وَقَوْلِهِمْ (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=148لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا ) [ الْأَنْعَامِ : 148 ] وَقَوْلِهِمْ (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=78مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ) [ يس : 78 ] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=36وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا ) [ الْكَهْفِ : 36 ] وَكَانُوا يَفْرَحُونَ بِذَلِكَ وَيَدْفَعُونَ بِهِ عُلُومَ الْأَنْبِيَاءِ ، كَمَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=32كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ) [ الرُّومِ : 32 ] ، الثَّانِي : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ عُلُومَ الْفَلَاسِفَةِ ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَمِعُوا بِوَحْيِ اللَّهِ دَفَعُوهُ وَصَغَّرُوا عِلْمَ الْأَنْبِيَاءِ إِلَى عُلُومِهِمْ ، وَعَنْ
سُقْرَاطَ أَنَّهُ سَمِعَ بِمَجِيءِ بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ فَقِيلَ لَهُ : لَوْ هَاجَرْتَ ، فَقَالَ : نَحْنُ قَوْمٌ مَهْدِيُّونَ فَلَا حَاجَةَ بِنَا إِلَى مَنْ يَهْدِينَا .
الثَّالِثُ : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ عِلْمَهُمْ بِأُمُورِ الدُّنْيَا وَمَعْرِفَتَهُمْ بِتَدْبِيرِهَا ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=7يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ ) [ الرُّومِ : 7 ] ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=30ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ) [ النَّجْمِ : 30 ] ، فَلَمَّا جَاءَهُمُ الرُّسُلُ بِعُلُومِ الدِّيَانَاتِ وَهِيَ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْرِفَةُ الْعِمَادِ وَتَطْهِيرُ النَّفْسِ عَنِ الرَّذَائِلِ لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهَا وَاسْتَهْزَئُوا بِهَا ، وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُ لَا عِلْمَ أَنْفَعُ وَأَجْلَبُ لِلْفَوَائِدِ مِنْ عِلْمِهِمْ ، فَفَرِحُوا بِهِ .
أَمَّا إِذَا قُلْنَا الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ فَفِيهِ وَجْهَانِ :
الْأَوَّلُ : أَنْ يُجْعَلَ الْفَرَحُ لِلرُّسُلِ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الرُّسُلَ لَمَّا رَأَوْا مِنْ قَوْمِهِمْ جَهْلًا كَامِلًا ، وَإِعْرَاضًا عَنِ الْحَقِّ وَعَلِمُوا سُوءَ عَاقِبَتِهِمْ وَمَا يَلْحَقُهُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ عَلَى جَهْلِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ ، فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا مِنَ الْعِلْمِ وَشَكَرُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ، وَحَاقَ بِالْكَافِرِينَ جَزَاءُ جَهْلِهِمْ وَاسْتِهْزَائِهِمْ . الثَّانِي : أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَ الرُّسُلِ
[ ص: 80 ] مِنَ الْعِلْمِ فَرَحَ ضَحِكٍ مِنْهُ وَاسْتِهْزَاءٍ بِهِ ، كَأَنَّهُ قَالَ : اسْتَهْزَئُوا بِالْبَيِّنَاتِ ، وَبِمَا جَاءُوا بِهِ مِنْ عِلْمِ الْوَحْيِ فَرِحِينَ ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=83وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ) .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=84فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ ) الْبَأْسُ شِدَّةُ الْعَذَابِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=165بِعَذَابٍ بَئِيسٍ ) [ الْأَعْرَافِ : 165 ] فَإِنْ قِيلَ أَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=85فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ ) وَبَيْنَ مَا لَوْ قِيلَ فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ إِيمَانُهُمْ ؟ قُلْنَا هُوَ مِثْلُ كَانَ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=19&ayano=35مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ ) [ مَرْيَمَ : 35 ] وَالْمَعْنَى فَلَمْ يَصِحَّ وَلَمْ يَسْتَقِمْ أَنْ يَنْفَعَهُمْ إِيمَانُهُمْ ، فَإِنْ قِيلَ : اذْكُرُوا ضَابِطًا فِي الْوَقْتِ الَّذِي لَا يَنْفَعُ الْإِتْيَانُ بِالْإِيمَانِ فِيهِ ، قُلْنَا إِنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي يُعَايِنُ فِيهِ نُزُولَ مَلَائِكَةِ الرَّحْمَةِ وَالْعَذَابِ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ يَصِيرُ الْمَرْءُ مُلْجَأً إِلَى الْإِيمَانِ ، فَذَلِكَ الْإِيمَانُ لَا يَنْفَعُ إِنَّمَا يَنْفَعُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى خِلَافِهِ ، حَتَّى يَكُونَ الْمَرْءُ مُخْتَارًا ، أَمَّا إِذَا عَايَنُوا عَلَامَاتِ الْآخِرَةِ فَلَا .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=85سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ ) وَالْمَعْنَى أَنَّ عَدَمَ قَبُولِ الْإِيمَانِ حَالَ الْيَأْسِ سُنَّةُ اللَّهِ مُطَّرِدَةٌ فِي كُلِّ الْأُمَمِ .
ثُمَّ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=85وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ ) فَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=40&ayano=85هُنَالِكَ ) مُسْتَعَارٌ لِلزَّمَانِ أَيْ : وَخَسِرُوا وَقْتَ رُؤْيَةِ الْبَأْسِ ، وَاللَّهُ الْهَادِي لِلصَّوَابِ .
تَمَّ تَفْسِيرُ هَذِهِ السُّورَةِ يَوْمَ السَّبْتِ الثَّانِي مِنْ ذِي الْحِجَّةِ مِنْ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَسِتِّمِائَةٍ مِنَ الْهِجْرَةِ فِي بَلْدَةِ
هَرَاةَ .
يَا مَنْ لَا يَبْلُغُ أَدْنَى مَا اسْتَأْثَرْتَ بِهِ مِنْ جَلَالِكَ وَعِزَّتِكَ أَقْصَى نُعُوتِ النَّاعِتِينَ ، يَا مَنْ تَقَاصَرَتْ عَنِ الْإِحَاطَةِ بِمَبَادِئِ أَسْرَارِ كِبْرِيَائِهِ أَفْهَامُ الْمُتَفَكِّرِينَ ، وَأَنْظَارُ الْمُتَأَمِّلِينَ ، لَا تَجْعَلْنَا بِفَضْلِكَ وَرَحْمَتِكَ فِي زُمْرَةِ الْخَاسِرِينَ الْمُبْطِلِينَ ، وَلَا تَجْعَلْنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمَحْرُومِينَ ، فَإِنَّكَ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ .
وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، وَصَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَى سَيِّدِنَا
مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ .