( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم )
قوله تعالى : ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم )
اعلم أن في الآية مسائل :
المسألة الأولى : أنا ذكرنا أن الكلام من أول هذه السورة إنما ابتدئ حيث قالوا للرسول ( قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه ) [ فصلت : 5 ] ومرادهم ألا نقبل قولك ولا نلتفت إلى دليلك ، ثم ذكروا طريقة أخرى في السفاهة ، فقالوا : ( لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه ) [ فصلت : 26 ] وإنه سبحانه ذكر الأجوبة الشافية ، والبينات الكافية في دفع هذه الشبهات وإزالة هذه الضلالات ، ثم إنه سبحانه وتعالى بين أن القوم وإن أتوا بهذه الكلمات الفاسدة ، إلا أنه يجب عليك تتابع المواظبة على التبليغ والدعوة ، فإن ، وعبر عن هذا المعنى فقال : ( الدعوة إلى الدين الحق أكمل الطاعات ورأس العبادات ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ) فهذا وجه شريف حسن في نظم آيات هذه السورة . وفيه وجه آخر وهو أن مراتب [ ص: 108 ] السعادات اثنان : التام ، وفوق التام ، أما التام : فهو أن يكتسب من الصفات الفاضلة ما لأجلها يصير كاملا في ذاته ، فإذا فرغ من هذه الدرجة اشتغل بعدها بتكميل الناقصين وهو فوق التام ، إذا عرفت هذا فنقول : إن قوله : ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ) [ فصلت : 30 ] إشارة إلى المرتبة الأولى ، وهي اكتساب الأحوال التي تفيد كمال النفس في جوهرها ، فإذا حصل الفراغ من هذه المرتبة وجب الانتقال إلى المرتبة الثانية وهي الاشتغال بتكميل الناقصين ، وذلك إنما يكون بدعوة الخلق إلى الدين الحق ، وهو المراد من قوله : ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله ) فهذا أيضا وجه حسن في نظم هذه الآيات .
واعلم أن من آتاه الله قريحة قوية ونصابا وافيا من العلوم الإلهية الكشفية ، عرف أنه لا ترتيب أحسن ولا أكمل من ترتيب آيات القرآن .
المسألة الثانية : من الناس من قال : المراد من قوله : ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله ) هو الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومنهم من قال : هم المؤذنون ، ولكن الحق المقطوع به أن كل من دعا إلى الله بطريق من الطرق فهو داخل فيه ، والدعوة إلى الله مراتب :
فالمرتبة الأولى : دعوة الأنبياء عليهم السلام راجحة على دعوة غيرهم من وجوه :
أحدها : أنهم جمعوا بين الدعوة بالحجة أولا ، ثم الدعوة بالسيف ثانيا ، وقلما اتفق لغيرهم الجمع بين هذين الطريقين .
وثانيها : أنهم هم المبتدئون بهذه الدعوة ، وأما العلماء فإنهم يبنون دعوتهم على دعوة الأنبياء ، والشارع في إحداث الأمر الشريف على طريق الابتداء أفضل .
وثالثها : أن نفوسهم أقوى قوة ، وأرواحهم أصفى جوهرا ، فكانت تأثيراتها في إحياء القلوب الميتة وإشراق الأرواح الكدرة أكمل ، فكانت دعوتهم أفضل .
ورابعها : أن النفوس على ثلاثة أقسام : ناقصة وكاملة لا تقوى على تكميل الناقصين ، وكاملة تقوى على تكميل الناقصين .
فالقسم الأول : العوام ، والقسم الثاني : هم الأولياء ، والقسم الثالث : هم الأنبياء ، ولهذا السبب قال صلى الله عليه وسلم : " علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل " وإذا عرفت هذا ، فنقول : إن نفس الأنبياء حصلت لها ميزتان : الكمال في الذات ، والتكميل للغير ، فكانت قوتهم على الدعوة أقوى ، وكانت درجاتهم أفضل وأكمل .
إذا عرفت هذا فنقول : الأنبياء عليهم السلام لهم صفتان : العلم والقدرة ، أما العلماء ، فهم نواب الأنبياء في العلم ، وأما الملوك ، فهم نواب الأنبياء في القدرة ، والعلم يوجب الاستيلاء على الأرواح ، والقدرة توجب الاستيلاء على الأجساد ، فالعلماء خلفاء الأنبياء في عالم الأرواح ، والملوك خلفاء الأنبياء في عالم الأجساد .
وإذا عرفت هذا ظهر أن ، ثم العلماء على ثلاثة أقسام : العلماء بالله ، والعلماء بصفات الله ، والعلماء بأحكام الله . أكمل الدرجات في الدعوة إلى الله بعد الأنبياء درجة العلماء
أما العلماء بالله ، فهم الحكماء الذين قال الله تعالى في حقهم ( يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ) [ البقرة : 229 ] وأما العلماء بصفات الله تعالى فهم أصحاب الأصول ، وأما العلماء بأحكام الله فهم الفقهاء ، ولكل واحد من هذه المقامات ثلاث درجات لا نهاية لها ، فلهذا السبب كان للدعوة إلى الله درجات لا نهاية لها ، وأما الملوك فهم أيضا يدعون إلى دين الله بالسيف ، وذلك بوجهين إما بتحصيله عند عدمه مثل المحاربة مع الكفار ، وإما بإيقاعه عند وجوده وذلك مثل قولنا : المرتد يقتل ، وأما المؤذنون فهم يدخلون في هذا الباب دخولا ضعيفا ، أما دخولهم فيه فلأن ذكر كلمات الأذان دعوة إلى الصلاة ، فكان ذلك داخلا تحت الدعاء إلى الله ، وأما كون [ ص: 109 ] هذه المرتبة ضعيفة ؛ فلأن الظاهر من حال المؤذن أنه لا يحيط بمعاني تلك الكلمات ، وبتقدير أن يكون محيطا بها ، إلا أنه لا يريد بذكرها تلك المعاني الشريفة ، فهذا هو الكلام ، في مراتب الدعوة إلى الله .
المسألة الثالثة : قوله : ( ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله ) يدل على أن الدعوة إلى الله أحسن من كل ما سواها ، إذا عرفت هذا فنقول : كل ما كان أحسن الأعمال وجب أن يكون واجبا ؛ لأن كل ما لا يكون واجبا فالواجب أحسن منه ، إذا عرفت هذا فنقول : الدعوة إلى الله أحسن الأعمال بمقتضى هذه الآية ، وكل ما كان أحسن الأعمال فهو واجب ، ثم ينتج أن الدعوة إلى الله واجبة ، ثم نقول : الأذان دعوة إلى الله ، والدعوة إليه واجبة ، فينتج : الأذان واجب ، واعلم أن الأكثرين من الفقهاء زعموا أن الأذان غير واجب ، وزعموا أن الأذان غير داخل في هذه الآية ، والدليل القاطع عليه أن الدعوة المرادة بهذه الآية يجب أن تكون أحسن الأقوال .
وثبت أن الأذان ليس أحسن الأقوال ؛ لأن الدعوة إلى دين الله سبحانه وتعالى بالدلائل اليقينية أحسن من الأذان ، ينتج من الشكل الثاني أن الداخل تحت هذه الآية ليس هو الأذان .
المسألة الرابعة : اختلف الناس في أن الأولى أن يقول الرجل : أنا مسلم أو الأولى أن يقول : أنا مسلم إن شاء الله ، فالقائلون بالقول الأول احتجوا على صحة قولهم بهذه الآية ، فإن التقدير : ومن أحسن قولا ممن قال إني من المسلمين ، فحكم بأن هذا القول أحسن الأقوال ، ولو كان قولنا : إن شاء الله معتبرا في كونه أحسن الأقوال لبطل ما دل عليه ظاهر هذه الآية .
المسألة الخامسة : الآية تدل على أن أحسن الأقوال قول من جمع بين خصال ثلاثة . أولها : الدعوة إلى الله . وثانيها : العمل الصالح . وثالثها : أن يكون من المسلمين ، أما الدعوة إلى الله فقد شرحناها وهي عبارة عن الدعوة إلى الله بإقامة الدلائل اليقينية والبراهين القطعية .
وأما قوله : ( وعمل صالحا ) فاعلم أن . العمل الصالح إما أن يكون عمل القلوب وهو المعرفة ، أو عمل الجوارح وهو سائر الطاعات