( وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم )
قوله تعالى : ( وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ولكن يدخل من يشاء في رحمته والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير له مقاليد السماوات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم )
واعلم أن كلمة " ذلك " للإشارة إلى شيء سبق ذكره فقوله : ( وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا ) يقتضي تشبيه وحي الله بالقرآن بشيء ههنا قد سبق ذكره ، وليس ههنا شيء سبق ذكره يمكن تشبيه وحي القرآن به إلا قوله : ( والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل ) [ الشورى : 6 ] يعني كما أوحينا إليك أنك لست حفيظا عليهم ولست وكيلا عليهم ، فكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتكون نذيرا لهم ، وقوله تعالى : ( لتنذر أم القرى ) أي لتنذر أهل أم القرى لأن البلد لا تعقل وهو كقوله : ( واسأل القرية ) [ يوسف : 82 ] وأم القرى أصل القرى وهي مكة وسميت بهذا الاسم إجلالا لها ؛ لأن فيها البيت ومقام إبراهيم ، والعرب تسمي أصل كل شيء أمه حتى يقال : هذه القصيدة من أمهات قصائد فلان ، ومن حولها من أهل البدو والحضر وأهل المدر ، والإنذار التخويف ، فإن قيل فظاهر اللفظ يقتضي أن الله تعالى إنما أوحى إليه لينذر أهل مكة وأهل القرى المحيطة بمكة ، وهذا يقتضي أن يكون رسولا إليهم فقط وأن لا يكون رسولا إلى كل العالمين . والجواب : أن [ ص: 128 ] التخصيص بالذكر لا يدل على نفي الحكم عما سواه ، فهذه الآية تدل على كونه رسولا إلى هؤلاء خاصة ، وقوله : ( وما أرسلناك إلا كافة للناس ) [ سبأ : 28 ] يدل على ، أيضا لما ثبت كونه رسولا إلى أهل كونه رسولا إلى كل العالمين مكة وجب كونه صادقا ، ثم إنه نقل إلينا بالتواتر أنه كان يدعي أنه رسول إلى كل العالمين ، والصادق إذا أخبر عن شيء وجب تصديقه فيه ، فثبت أنه رسول إلى كل العالمين .
ثم قال تعالى : ( وتنذر يوم الجمع ) الأصل أن يقال : أنذرت فلانا بكذا ، فكان الواجب أن يقال : لتنذر أم القرى بيوم الجمع ، وأيضا فيه إضمار ، والتقدير لتنذر أهل أم القرى بعذاب يوم الجمع وفي وجوه : تسميته بيوم الجمع
الأول : أن الخلائق يجمعون فيه قال تعالى : ( يوم يجمعكم ليوم الجمع ) [ التغابن : 9 ] فيجتمع فيه أهل السماوات مع أهل الأرض .
الثاني : أنه يجمع بين الأرواح والأجساد .
الثالث : يجمع بين كل عامل وعمله .
الرابع : يجمع بين الظالم والمظلوم .
وقوله : ( لا ريب فيه ) صفة ليوم الجمع الذي لا ريب فيه ، وقوله : ( فريق في الجنة وفريق في السعير ) تقديره ليوم الجمع الذي من صفته يكون القوم فيه فريقين ، فريق في الجنة وفريق في السعير ، فإن قيل قوله : ( يوم الجمع ) يقتضي كون القوم مجتمعين ، وقوله : ( فريق في الجنة وفريق في السعير ) يقتضي كونهم متفرقين ، والجمع بين الصفتين محال ، قلنا إنهم يجتمعون أولا ثم يصيرون فريقين .
ثم قال : ( ولو شاء الله لجعلهم أمة واحدة ) والمراد تقرير قوله : ( والذين اتخذوا من دونه أولياء الله حفيظ عليهم وما أنت عليهم بوكيل ) [ الشورى : 6 ] أي لا يكن في قدرتك أن تحملهم على الإيمان ، فلو شاء الله ذلك لفعله لأنه أقدر منك ، ولكنه جعل البعض مؤمنا والبعض كافرا ، فقوله : ( يدخل من يشاء في رحمته ) يدل على أنه تعالى هو الذي أدخلهم في الإيمان والطاعة ، وقوله : ( والظالمون ما لهم من ولي ولا نصير ) يعني أنه تعالى ما أدخلهم في رحمته ، وهذا يدل على أن الأولين إنما دخلوا في رحمته ، لأنه كان لهم ولي ونصير أدخلهم في تلك الرحمة ، وهؤلاء ما كان لهم ولي ولا نصير يدخلهم في رحمته .
ثم قال تعالى : ( أم اتخذوا من دونه أولياء ) والمعنى أنه تعالى حكى عنهم أولا أنهم اتخذوا من دونه أولياء ، ثم قال بعده لمحمد صلى الله عليه وسلم : لست عليهم رقيبا ولا حافظا ، ولا يجب عليك أن تحملهم على الإيمان شاءوا أم أبوا ، فإن هذا المعنى لو كان واجبا لفعله الله ؛ لأنه أقدر منك ، ثم إنه أعاد بعده ذلك الكلام على سبيل الاستنكار ، فإن قوله : ( أم اتخذوا من دونه أولياء ) استفهام على سبيل الإنكار .
ثم قال تعالى : ( فالله هو الولي ) والفاء في قوله : ( فالله هو الولي ) جواب شرط مقدر ، كأنه قال : إن أرادوا أولياء بحق ، فالله هو الولي بالحق لا ولي سواه ؛ لأنه يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير ، فهو الحقيق بأن يتخذ وليا دون من لا يقدر على شيء .
ثم قال : ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : وجه النظم أنه تعالى كما منع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحمل الكفار على الإيمان قهرا ، فكذلك منع المؤمنين أن يشرعوا معهم في الخصومات والمنازعات ، فقال : ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) وهو إثابة المحقين فيه ومعاقبة المبطلين ، وقيل وما اختلفتم فيه من شيء وتنازعتم فتحاكموا فيه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا تؤثر حكومة غيره على حكومته ، وقيل : وما وقع بينكم فيه خلاف من الأمور التي لا تصل بتكليفكم ، ولا طريق لكم إلى عمله كحقيقة الروح ، فقولوا : الله أعلم به ، قال تعالى : [ ص: 129 ] ( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي ) [الإسراء : 85] .
المسألة الثانية : تقدير الآية كأنه قال : قل يا محمد ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) والدليل عليه قوله تعالى : ( ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب ) .
المسألة الثالثة : احتج نفاة القياس بهذه الآية ، فقالوا : قوله تعالى : ( وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ) إما أن يكون المراد : فحكمه مستفاد من نص الله عليه ، أو المراد : فحكمه مستفاد من القياس على ما نص الله عليه ، والثاني باطل ؛ لأنه يقتضي كون كل الأحكام مثبتة بالقياس بأنه باطل ، فيعتبر الأول ، فوجب كون كل الأحكام مثبتة بالنص ، وذلك ينفي ، ولقائل أن يقول : لم لا يجوز أن يكون المراد : فحكمه يعرف من بيان الله تعالى ، سواء كان ذلك البيان بالنص أو بالقياس ؟ أجيب عنه : بأن المقصود من التحاكم إلى الله قطع الاختلاف ، والرجوع إلى القياس يقوي حكم الاختلاف ولا يوضحه ، فوجب أن يكون الواجب هو الرجوع إلى نصوص الله تعالى . العمل بالقياس
ثم قال تعالى : ( ذلكم الله ربي ) أي ذلكم الحاكم بينكم هو ( ربي عليه توكلت ) في دفع كيد الأعداء وفي طلب كل خير ( وإليه أنيب ) أي وإليه أرجع في كل المهمات ، وقوله ( عليه توكلت ) يفيد الحصر ، أي لا أتوكل إلا عليه ، وهو إشارة إلى تزييف طريقة من اتخذ غير الله وليا .
ثم قال : ( فاطر السماوات والأرض ) قرئ بالرفع والجر ، فالرفع على أنه خبر " ذلكم " ، أو خبر مبتدأ محذوف ، والجر على تقدير أن يكون الكلام هكذا : وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله فاطر السماوات والأرض ، وقوله ( ذلكم الله ربي ) اعتراض وقع بين الصفة والموصوف ، ( جعل لكم من أنفسكم ) من جنسكم من الناس ( أزواجا ومن الأنعام أزواجا ) أي خلق من الأنعام أزواجا ، ومعناه : وخلق أيضا للأنعام من أنفسها أزواجا ( يذرؤكم ) أي يكثركم ، يقال : ذرأ الله الخلق ، أي كثرهم ، وقوله ( فيه ) أي في هذا التدبير ، وهو التزويج ، وهو أن جعل الناس والأنعام أزواجا حتى كان بين ذكورهم وإناثهم التوالد والتناسل ، والضمير في ( يذرؤكم ) يرجع إلى المخاطبين ، إلا أنه غلب فيه جانب الناس من وجهين :
الأول : أنه غلب فيه جانب العقلاء على غير العقلاء .
الثاني : أنه غلب فيه جانب المخاطبين على الغائبين ، فإن قيل : ما معنى " يذرؤكم " في هذا التدبير ، ولم لم يقل : يذرؤكم به ؟ قلنا : جعل هذا التدبير كالمنبع والمعدن لهذا التكثير ، ألا ترى أنه يقال للحيوان في خلق الأزواج تكثير ، كما قال تعالى : ( ولكم في القصاص حياة ) [البقرة : 179] .