المسألة السابعة : في بيان نظم هذه الآيات : اعلم أن المقصود منها تعظيم القرآن من ثلاثة أوجه :
أحدها : بيان
nindex.php?page=treesubj&link=28741_28743تعظيم القرآن بحسب ذاته .
الثاني : بيان تعظيمه بسبب شرف الوقت الذي نزل فيه .
والثالث : بيان تعظيمه بحسب شرف منزلته .
أما بيان تعظيمه بحسب ذاته فمن ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه تعالى أقسم به وذلك يدل على شرفه .
وثانيها : أنه تعالى أقسم به على كونه نازلا في ليلة مباركة ، وقد ذكرنا أن القسم بالشيء على حالة من أحوال نفسه يدل على كونه في غاية الشرف .
وثالثها : أنه تعالى وصفه بكونه مبينا ، وذلك يدل أيضا على شرفه في ذاته .
وأما النوع الثاني : وهو بيان شرفه لأجل شرف الوقت الذي أنزل فيه فهو قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=3إنا أنزلناه في ليلة مباركة ) ، وهذا تنبيه على أن نزوله في ليلة مباركة يقتضي شرفه وجلالته ، ثم نقول : إن قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=3إنا أنزلناه في ليلة مباركة ) يقتضي أمرين : أحدهما : أنه تعالى أنزله ، والثاني : كون تلك الليلة مباركة ، فذكر تعالى عقيب هذه الكلمة ما يجري مجرى البيان لكل واحد منهما ، أما بيان أنه تعالى لم أنزله فهو قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=3إنا كنا منذرين ) يعني الحكمة في إنزال هذه السورة أن إنذار الخلق لا يتم إلا به ، وأما بيان أن هذه الليلة ليلة مباركة فهو أمران : أحدهما : أنه تعالى يفرق فيها كل أمر حكيم ، والثاني : أن ذلك الأمر الحكيم مخصوص بشرف أنه إنما يظهر من عنده ، وإليه الإشارة بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=5أمرا من عندنا ) .
وأما النوع الثالث : فهو بيان
nindex.php?page=treesubj&link=28738_28743شرف القرآن لشرف منزله وذلك هو قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=5إنا كنا مرسلين ) فبين أن ذلك الإنذار والإرسال إنما حصل من الله تعالى ، ثم بين أن ذلك الإرسال إنما كان لأجل تكميل الرحمة وهو قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=6رحمة من ربك ) ، وكان الواجب أن يقال : رحمة منا إلا أنه وضع الظاهر موضع المضمر إيذانا بأن الربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين ، ثم بين أن تلك الرحمة وقعت على وفق حاجات المحتاجين لأنه تعالى يسمع تضرعاتهم ، ويعلم أنواع حاجاتهم ، فلهذا قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=6إنه هو السميع العليم ) فهذا ما خطر بالبال في كيفية تعلق بعض هذه الآيات ببعض .
المسألة الثامنة : في تفسير مفردات هذه الألفاظ : أما قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=3إنا أنزلناه في ليلة مباركة ) فقد قيل فيه : إنه تعالى أنزل كلية القرآن من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا في هذه الليلة ، ثم أنزل في كل وقت ما يحتاج إليه المكلف ، وقيل : يبدأ في استنساخ ذلك من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة ، ويقع الفراغ في ليلة القدر ، فتدفع نسخة الأرزاق إلى
ميكائيل ، ونسخة الحروب إلى
جبرائيل ، وكذلك الزلازل والصواعق والخسف ، ونسخة الأعمال إلى
إسماعيل صاحب سماء الدنيا وهو ملك عظيم ، ونسخة المصائب إلى ملك الموت .
[ ص: 206 ] أما قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=4فيها يفرق ) أي في تلك الليلة المباركة يفرق أي يفصل ويبين من قولهم : فرقت الشيء أفرقه فرقا وفرقانا ، قال صاحب “ الكشاف “ : وقرئ يفرق بالتشديد ، ويفرق على إسناد الفعل إلى الفاعل ونصب كل ، والفارق هو الله عز وجل ، وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=15948زيد بن علي نفرق بالنون .
أما قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=4كل أمر حكيم ) ،
nindex.php?page=treesubj&link=29446فالحكيم معناه ذو الحكمة ، وذلك لأن تخصيص الله تعالى كل أحد بحالة معينة من العمر والرزق والأجل والسعادة والشقاوة يدل على حكمة بالغة لله تعالى ، فلما كانت تلك الأفعال والأقضية دالة على حكمة فاعلها وصفت بكونها حكيمة ، وهذا من الإسناد المجازي ، لأن الحكيم صفة صاحب الأمر على الحقيقة ، ووصف الأمر به مجاز ، ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=5أمرا من عندنا ) ، وفي انتصاب قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=5أمرا ) وجهان :
الأول : أنه نصب على الاختصاص ، وذلك لأنه تعالى بين شرف تلك الأقضية والأحكام بسبب أن وصفها بكونها حكيمة ، ثم زاد في بيان شرفها بأن قال : أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا كائنا من لدنا ، وكما اقتضاه علمنا وتدبيرنا .
والثاني : أنه نصب على الحال ، وفيه ثلاثة أوجه :
الأول : أن يكون حالا من أحد الضميرين في (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=3أنزلناه ) ، إما من ضمير الفاعل أي : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=3إنا أنزلناه ) آمرين أمرا ، أو من ضمير المفعول أي : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=3إنا أنزلناه ) في حال كونه أمرا من عندنا بما يجب أن يفعل .
والثالث : ما حكاه
أبو علي الفارسي عن
أبي الحسن رحمهما الله : أنه حمل قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=5أمرا ) على الحال ، وذو الحال قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=4كل أمر حكيم ) ، وهو نكرة .
ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=5إنا كنا مرسلين ) يعني : إنا إنما فعلنا ذلك الإنذار لأجل ( إنا كنا مرسلين ) يعني الأنبياء .
ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=6رحمة من ربك ) أي للرحمة ، فهي نصب على أن يكون مفعولا له .
ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=6إنه هو السميع العليم ) يعني أن تلك الرحمة كانت رحمة في الحقيقة لأن المحتاجين إما أن يذكروا بألسنتهم حاجاتهم ، وإما أن لا يذكروها ، فإن ذكروها فهو تعالى يسمع كلامهم فيعرف حاجاتهم ، وإن لم يذكروها فهو تعالى عالم بها ، فثبت أن كونه ( سميعا عليما ) يقتضي أن ينزل رحمته عليهم .
ثم قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=7رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين ) ، وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ
عاصم وحمزة والكسائي بكسر الباء من رب عطفا على قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=6رحمة من ربك ) والباقون بالرفع عطفا على قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=6هو السميع العليم ) .
المسألة الثانية : المقصود من هذه الآية أن المنزل إذا كان موصوفا بهذه الجلالة والكبرياء كان المنزل الذي هو القرآن في غاية الشرف والرفعة .
المسألة الثالثة : الفائدة في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=7إن كنتم موقنين ) من وجوه :
الأول : قال
أبو مسلم : معناه إن كنتم تطلبون اليقين وتريدونه ، فاعرفوا أن الأمر كما قلنا ، كقولهم : فلان منجد متهم أي يريد
نجدا وتهامة .
الثاني : قال صاحب “ الكشاف “ كانوا يقرون بأن للسماوات والأرض ربا وخالقا ، فقيل لهم : إن إرسال الرسل وإنزال الكتب رحمة من الرب سبحانه وتعالى ، ثم قيل : إن هذا هو السميع العليم الذي أنتم مقرون به ومعترفون بأنه رب السماوات والأرض وما بينهما إن كان إقراركم عن علم ويقين ، كما تقول : هذا إنعام زيد الذي تسامع الناس بكرمه إن بلغك حديثه وسمعت قصته ، ثم إنه تعالى رد أن يكونوا موقنين بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=9بل هم في شك يلعبون ) ، وأن إقرارهم غير صادر عن علم ويقين ولا عن جد وحقيقة ، بل قول مخلوط بهزء ولعب ، والله أعلم .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : فِي بَيَانِ نَظْمِ هَذِهِ الْآيَاتِ : اعْلَمْ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهَا تَعْظِيمُ الْقُرْآنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :
أَحَدُهَا : بَيَانُ
nindex.php?page=treesubj&link=28741_28743تَعْظِيمِ الْقُرْآنِ بِحَسَبِ ذَاتِهِ .
الثَّانِي : بَيَانُ تَعْظِيمِهِ بِسَبَبِ شَرَفِ الْوَقْتِ الَّذِي نَزَلَ فِيهِ .
وَالثَّالِثُ : بَيَانُ تَعْظِيمِهِ بِحَسَبِ شَرَفِ مَنْزِلَتِهِ .
أَمَّا بَيَانُ تَعْظِيمِهِ بِحَسَبِ ذَاتِهِ فَمِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :
أَحَدُهَا : أَنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِهِ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى شَرَفِهِ .
وَثَانِيهَا : أَنَّهُ تَعَالَى أَقْسَمَ بِهِ عَلَى كَوْنِهِ نَازِلًا فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَسَمَ بِالشَّيْءِ عَلَى حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِ نَفْسِهِ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ فِي غَايَةِ الشَّرَفِ .
وَثَالِثُهَا : أَنَّهُ تَعَالَى وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ مُبِينًا ، وَذَلِكَ يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى شَرَفِهِ فِي ذَاتِهِ .
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي : وَهُوَ بَيَانُ شَرَفِهِ لِأَجْلِ شَرَفِ الْوَقْتِ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ فَهُوَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=3إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) ، وَهَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ نُزُولَهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ يَقْتَضِي شَرَفَهُ وَجَلَالَتَهُ ، ثُمَّ نَقُولُ : إِنَّ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=3إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) يَقْتَضِي أَمْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَهُ ، وَالثَّانِي : كَوْنُ تِلْكَ اللَّيْلَةِ مُبَارَكَةً ، فَذَكَرَ تَعَالَى عَقِيبَ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مَا يَجْرِي مَجْرَى الْبَيَانِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، أَمَّا بَيَانُ أَنَّهُ تَعَالَى لِمَ أَنْزَلَهُ فَهُوَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=3إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ ) يَعْنِي الْحِكْمَةَ فِي إِنْزَالِ هَذِهِ السُّورَةِ أَنَّ إِنْذَارَ الْخَلْقِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِهِ ، وَأَمَّا بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ لَيْلَةٌ مُبَارَكَةٌ فَهُوَ أَمْرَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ تَعَالَى يَفْرِقُ فِيهَا كُلَّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ، وَالثَّانِي : أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ الْحَكِيمَ مَخْصُوصٌ بِشَرَفِ أَنَّهُ إِنَّمَا يَظْهَرُ مِنْ عِنْدِهِ ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=5أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا ) .
وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّالِثُ : فَهُوَ بَيَانُ
nindex.php?page=treesubj&link=28738_28743شَرَفِ الْقُرْآنِ لِشَرَفِ مَنْزِلِهِ وَذَلِكَ هُوَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=5إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) فَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْإِنْذَارَ وَالْإِرْسَالَ إِنَّمَا حَصَلَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْإِرْسَالَ إِنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ تَكْمِيلِ الرَّحْمَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=6رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) ، وَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يُقَالَ : رَحْمَةً مِنَّا إِلَّا أَنَّهُ وَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ إِيذَانًا بِأَنَّ الرُّبُوبِيَّةَ تَقْتَضِي الرَّحْمَةَ عَلَى الْمَرْبُوبِينَ ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ تِلْكَ الرَّحْمَةَ وَقَعَتْ عَلَى وَفْقِ حَاجَاتِ الْمُحْتَاجِينَ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَسْمَعُ تَضَرُّعَاتِهِمْ ، وَيَعْلَمُ أَنْوَاعَ حَاجَاتِهِمْ ، فَلِهَذَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=6إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) فَهَذَا مَا خَطَرَ بِالْبَالِ فِي كَيْفِيَّةِ تَعَلُّقِ بَعْضِ هَذِهِ الْآيَاتِ بِبَعْضٍ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : فِي تَفْسِيرِ مُفْرَدَاتِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ : أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=3إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ) فَقَدْ قِيلَ فِيهِ : إِنَّهُ تَعَالَى أَنْزَلَ كُلِّيَّةَ الْقُرْآنِ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ ، ثُمَّ أَنْزَلَ فِي كُلِّ وَقْتٍ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُكَلَّفُ ، وَقِيلَ : يَبْدَأُ فِي اسْتِنْسَاخِ ذَلِكَ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فِي لَيْلَةِ الْبَرَاءَةِ ، وَيَقَعُ الْفَرَاغُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ، فَتُدْفَعُ نُسْخَةُ الْأَرْزَاقِ إِلَى
مِيكَائِيلَ ، وَنُسْخَةُ الْحُرُوبِ إِلَى
جِبْرَائِيلَ ، وَكَذَلِكَ الزَّلَازِلِ وَالصَّوَاعِقِ وَالْخَسْفِ ، وَنُسْخَةُ الْأَعْمَالِ إِلَى
إِسْمَاعِيلَ صَاحِبِ سَمَاءِ الدُّنْيَا وَهُوَ مَلَكٌ عَظِيمٌ ، وَنُسْخَةُ الْمَصَائِبِ إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ .
[ ص: 206 ] أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=4فِيهَا يُفْرَقُ ) أَيْ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ الْمُبَارَكَةِ يُفْرَقُ أَيْ يُفَصَّلُ وَيُبَيَّنُ مِنْ قَوْلِهِمْ : فَرَقْتُ الشَّيْءَ أَفْرُقُهُ فَرْقًا وَفُرْقَانًا ، قَالَ صَاحِبُ “ الْكَشَّافِ “ : وَقُرِئَ يُفَرِّقُ بِالتَّشْدِيدِ ، وَيَفْرُقُ عَلَى إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى الْفَاعِلِ وَنَصْبِ كُلٍّ ، وَالْفَارِقُ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، وَقَرَأَ
nindex.php?page=showalam&ids=15948زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ نُفَرِّقُ بِالنُّونِ .
أَمَّا قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=4كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) ،
nindex.php?page=treesubj&link=29446فَالْحَكِيمُ مَعْنَاهُ ذُو الْحِكْمَةِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ تَخْصِيصَ اللَّهِ تَعَالَى كُلَّ أَحَدٍ بِحَالَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِنَ الْعُمُرِ وَالرِّزْقِ وَالْأَجْلِ وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ يَدُلُّ عَلَى حِكْمَةٍ بَالِغَةٍ لِلَّهِ تَعَالَى ، فَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الْأَفْعَالُ وَالْأَقْضِيَةُ دَالَّةً عَلَى حِكْمَةِ فَاعِلِهَا وُصِفَتْ بِكَوْنِهَا حَكِيمَةً ، وَهَذَا مِنَ الْإِسْنَادِ الْمَجَازِيِّ ، لِأَنَّ الْحَكِيمَ صِفَةُ صَاحِبِ الْأَمْرِ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، وَوَصْفُ الْأَمْرِ بِهِ مَجَازٌ ، ثُمَّ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=5أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا ) ، وَفِي انْتِصَابِ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=5أَمْرًا ) وَجْهَانِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى الِاخْتِصَاصِ ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ شَرَفَ تِلْكَ الْأَقْضِيَةِ وَالْأَحْكَامِ بِسَبَبِ أَنْ وَصَفَهَا بِكَوْنِهَا حَكِيمَةً ، ثُمَّ زَادَ فِي بَيَانِ شَرَفِهَا بِأَنْ قَالَ : أَعْنِي بِهَذَا الْأَمْرِ أَمْرًا حَاصِلًا مِنْ عِنْدِنَا كَائِنًا مِنْ لَدُنَّا ، وَكَمَا اقْتَضَاهُ عِلْمُنَا وَتَدْبِيرُنَا .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ :
الْأَوَّلُ : أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ أَحَدِ الضَّمِيرَيْنِ فِي (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=3أَنْزَلْنَاهُ ) ، إِمَّا مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ أَيْ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=3إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ) آمِرِينَ أَمْرًا ، أَوْ مِنْ ضَمِيرِ الْمَفْعُولِ أَيْ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=3إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ ) فِي حَالِ كَوْنِهِ أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا بِمَا يَجِبُ أَنْ يَفْعَلَ .
وَالثَّالِثُ : مَا حَكَاهُ
أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ عَنْ
أَبِي الْحَسَنِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : أَنَّهُ حَمَلَ قَوْلَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=5أَمْرًا ) عَلَى الْحَالِ ، وَذُو الْحَالِ قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=4كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) ، وَهُوَ نَكِرَةٌ .
ثُمَّ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=5إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) يَعْنِي : إِنَّا إِنَّمَا فَعَلْنَا ذَلِكَ الْإِنْذَارَ لِأَجَلِ ( إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ ) يَعْنِي الْأَنْبِيَاءَ .
ثُمَّ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=6رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) أَيْ لِلرَّحْمَةِ ، فَهِيَ نَصْبٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا لَهُ .
ثُمَّ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=6إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) يَعْنِي أَنَّ تِلْكَ الرَّحْمَةَ كَانَتْ رَحْمَةً فِي الْحَقِيقَةِ لِأَنَّ الْمُحْتَاجِينَ إِمَّا أَنْ يَذْكُرُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ حَاجَاتِهِمْ ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَذْكُرُوهَا ، فَإِنْ ذَكَرُوهَا فَهُوَ تَعَالَى يَسْمَعُ كَلَامَهُمْ فَيَعْرِفُ حَاجَاتِهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوهَا فَهُوَ تَعَالَى عَالِمٌ بِهَا ، فَثَبَتَ أَنَّ كَوْنَهُ ( سَمِيعًا عَلِيمًا ) يَقْتَضِي أَنْ يُنْزِلَ رَحْمَتَهُ عَلَيْهِمْ .
ثُمَّ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=7رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ) ، وَفِيهِ مَسَائِلُ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَرَأَ
عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الْبَاءِ مِنْ رَبٍّ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=6رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ) وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=6هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ) .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ الْمُنَزِّلَ إِذَا كَانَ مَوْصُوفًا بِهَذِهِ الْجَلَالَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ كَانَ الْمُنْزَّلُ الَّذِي هُوَ الْقُرْآنُ فِي غَايَةِ الشَّرَفِ وَالرِّفْعَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : الْفَائِدَةُ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=7إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ ) مِنْ وُجُوهٍ :
الْأَوَّلُ : قَالَ
أَبُو مُسْلِمٍ : مَعْنَاهُ إِنْ كُنْتُمْ تَطْلُبُونَ الْيَقِينَ وَتُرِيدُونَهُ ، فَاعْرِفُوا أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا قُلْنَا ، كَقَوْلِهِمْ : فُلَانٌ مُنْجِدٌ مُتْهِمٌ أَيْ يُرِيدُ
نَجْدًا وَتِهَامَةَ .
الثَّانِي : قَالَ صَاحِبُ “ الْكَشَّافِ “ كَانُوا يُقِرُّونَ بِأَنَّ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبًّا وَخَالِقًا ، فَقِيلَ لَهُمْ : إِنَّ إِرْسَالَ الرُّسُلِ وَإِنْزَالَ الْكُتُبِ رَحْمَةٌ مِنَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى ، ثُمَّ قِيلَ : إِنَّ هَذَا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ الَّذِي أَنْتُمْ مُقِرُّونَ بِهِ وَمُعْتَرِفُونَ بِأَنَّهُ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كَانَ إِقْرَارُكُمْ عَنْ عِلْمٍ وَيَقِينٍ ، كَمَا تَقُولُ : هَذَا إِنْعَامُ زَيْدٍ الَّذِي تَسَامَعَ النَّاسُ بِكَرَمِهِ إِنْ بَلَغَكَ حَدِيثُهُ وَسَمِعْتَ قِصَّتَهُ ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى رَدَّ أَنْ يَكُونُوا مُوقِنِينَ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=44&ayano=9بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ ) ، وَأَنَّ إِقْرَارَهُمْ غَيْرُ صَادِرٍ عَنْ عِلْمٍ وَيَقِينٍ وَلَا عَنْ جَدٍّ وَحَقِيقَةٍ ، بَلْ قَوْلٌ مَخْلُوطٌ بِهُزْءٍ وَلَعِبٍ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .