ثم قال تعالى : ( حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : اختلف المفسرون في ، قال تفسير الأشد في رواية ابن عباس عطاء : يريد ثماني عشرة سنة والأكثرون من المفسرين على أنه ثلاثة وثلاثون سنة ، واحتج الفراء عليه بأن قال : إن الأربعين أقرب في النسق إلى ثلاث وثلاثين منها إلى ثمانية عشر ، ألا ترى أنك تقول : أخذت عامة المال أو كله ، فيكون أحسن من قولك : أخذت أقل المال أو كله ، ومثله قوله تعالى : ( إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه ) [ المزمل : 20] فبعض هذه الأقسام قريب من بعض فكذا ههنا ، وقال الزجاج : الأولى حمله على ثلاث وثلاثين سنة ؛ لأن هذا الوقت الذي يكمل فيه بدن الإنسان ، وأقول : تحقيق الكلام في هذا الباب أن يقال : إن مراتب سن الحيوان ثلاثة ، وذلك لأن بدن الحيوان لا يتكون إلا برطوبة غريزية وحرارة غريزية ، ولا شك أن الرطوبة الغريزية [ ص: 16 ] غالبة في أول العمر وناقصة في آخر العمر ، والانتقال من الزيادة إلى النقصان لا يعقل حصوله إلا إذا حصل الاستواء في وسط هاتين المدتين ، فثبت أن : مدة العمر منقسمة إلى ثلاثة أقسام
أولها : أن تكون الرطوبة الغريزية زائدة على الحرارة الغريزية وحينئذ تكون الأعضاء قابلة للتمدد في ذواتها للزيادة بحسب الطول والعرض والعمق وهذا هو سن النشوء والنماء .
والمرتبة الثانية : وهي المرتبة المتوسطة أن تكون الرطوبة الغريزية وافية بحفظ الحرارة الغريزية من غير زيادة ولا نقصان وهذا هو سن الوقوف وهو سن الشباب .
والمرتبة الثالثة : وهي المرتبة الأخيرة أن تكون الرطوبة الغريزية ناقصة عن الوفاء بحفظ الحرارة الغريزية ثم هذا النقصان على قسمين :
فالأول : هو النقصان الخفي وهو سن الكهولة .
والثاني : هو النقصان الظاهر وهو سن الشيخوخة ، فهذا ضبط معلوم . ثم ههنا مقدمة أخرى وهي أن دور القمر إنما يكمل في مدة ثمانية وعشرين يوما وشيء ، فإذا قسمنا هذه المدة بأربعة أقسام كان كل قسم منها سبعة فلهذا السبب قدروا الشهر بالأسابيع الأربعة ، ولهذه الأسابيع تأثيرات عظيمة في اختلاف أحوال هذا العالم ، إذا عرفت هذا فنقول : إن المحققين من أصحاب التجارب قسموا مدة سن النماء والنشوء إلى أربعة أسابيع ويحصل للآدمي بحسب انتهاء كل سابوع من هذه السوابيع الأربعة نوع من التغير يؤدي إلى كماله ، أما عند تمام السابوع الأول من العمر فتتصلب أعضاؤه بعض الصلابة وتقوى أفعاله أيضا بعض القوة ، وتتبدل أسنانه الضعيفة الواهية بأسنان قوية وتكون قوة الشهوة في هذا السابوع أقوى في الهضم مما كان قبل ذلك ، وأما في نهاية السابوع الثاني فتقوى الحرارة وتقل الرطوبات وتتسع المجاري وتقوى قوة الهضم وتقوى الأعضاء وتصلب قوة وصلابة كافية ويتولد فيه مادة الزرع ، وعند هذا يحكم الشرع عليه بالبلوغ على قول رضي الله عنه ، وهذا هو الحق الذي لا محيد عنه ؛ لأن هذا الوقت لما قويت الحرارة الغريزية قلت الرطوبات واعتدل الدماغ فتكمل القوى النفسانية التي هي الفكر والذكر ، فلا جرم يحكم عليه بكمال العقل ، فلا جرم حكمت الشريعة بالبلوغ وتوجه التكاليف الشرعية فما أحسن قول من ضبط الشافعي بخمس عشرة سنة . البلوغ الشرعي
واعلم أنه يتفرع على حصول هذه الحالة أحوال في ظاهر البدن :
أحدها : انفراق طرف الأرنبة ؛ لأن الرطوبة الغريزية التي هناك تنتقص فيظهر الانفراق .
وثانيها : نتوء الحنجرة وغلظ الصوت لأن الحرارة التي تنهض في ذلك الوقت توسع الحنجرة فتنتؤ ويغلظ الصوت .
وثالثها : تغير ريح الإبط وهي الفضلة العفنية التي يدفعها القلب إلى ذلك الموضع ، وذلك لأن القلب لما قويت حرارته لا جرم قويت على إنضاج المادة ودفعها إلى اللحم الغددي الرخو الذي في الإبط .
ورابعها : نبات الشعر وحصول الاحتلام ، وكل ذلك لأن الحرارة قويت فقدرت على توليد الأبخرة المولدة للشعر وعلى توليد مادة الزرع ، وفي هذا الوقت تتحرك الشهوة في الصبايا وينهد ثديهن وينزل حيضهن وكل ذلك بسبب أن الحرارة الغريزية التي فيهن قويت في آخر هذا السابوع ، وأما في السابوع الثالث فيدخل في حد الكمال وينبت للذكر اللحية ويزداد حسنه وكماله ، وأما في السابوع الرابع فلا تزال هذه الأحوال فيه متكاملة متزايدة ، وعند انتهاء السابوع الرابع نهاية أن لا يظهر الازدياد ، أما مدة سن الشباب وهي مدة الوقوف فسابوع واحد فيكون المجموع خمسة وثلاثين سنة . ولما كانت هذه المدة إما قد [ ص: 17 ] تزداد ، وإما قد تنقص بحسب الأمزجة جعل الغاية فيه مدة أربعين سنة . وهذا هو السن الذي يحصل فيه الكمال اللائق بالإنسان شرعا وطبا ، فإن في هذا الوقت تسكن أفعال القوى الطبيعية بعض السكون وتنتهي له أفعال القوة الحيوانية غايتها ، وتبتدئ أفعال القوة النفسانية بالقوة والكمال ، وإذا عرفت هذه المقدمة ظهر لك أن بلوغ الإنسان وقت الأشد شيء وبلوغه إلى الأربعين شيء آخر ، فإن بلوغه إلى وقت الأشد عبارة عن الوصول إلى آخر سن النشوء والنماء ، وأن بلوغه إلى الأربعين عبارة عن الوصول إلى آخر مدة الشباب ، ومن ذلك الوقت تأخذ القوى الطبيعية والحيوانية في الانتقاص ، وتأخذ القوة العقلية والنطقية في الاستكمال ، وهذا أحد ما يدل على أن النفس غير البدن ، فإن البدن عند الأربعين يأخذ في الانتقاص ، والنفس من وقت الأربعين تأخذ في الاستكمال ، ولو كانت النفس عين البدن لحصل للشيء الواحد في الوقت الواحد الكمال والنقصان وذلك محال ، وهذا الكلام الذي ذكرناه ولخصناه مذكور في صريح لفظ القرآن ، لأنا بينا أن عند الأربعين تنتهي الكمالات الحاصلة بسبب القوى الطبيعية والحيوانية ، وأما الكمالات الحاصلة بحسب القوى النطقية والعقلية فإنها تبتدئ بالاستكمال ، والدليل عليه قوله تعالى : ( حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي ) فهذا يدل على أن توجه الإنسان إلى عالم العبودية والاشتغال بطاعة الله إنما يحصل من هذا الوقت ، وهذا تصريح بأن القوة النفسانية العقلية النطقية إنما تبتدئ بالاستكمال من هذا الوقت فسبحان من أودع في هذا الكتاب الكريم هذه الأسرار الشريفة المقدسة .
قال المفسرون : ، وأقول هذا مشكل لم يبعث نبي قط إلا بعد أربعين سنة بعيسى عليه السلام فإن الله جعله نبيا من أول عمره ، إلا أنه يجب أن يقال : الأغلب أنه ما جاءه الوحي إلا بعد الأربعين ، وهكذا كان الأمر في حق رسولنا صلى الله عليه وسلم ، ويروى أن لما بلغ أربعين سنة كان يقول : اللهم أوزعني أن أشكر نعمتك إلى تمام الدعاء ، وروي أنه عمر بن عبد العزيز جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : "يؤمر الحافظان أن ارفقا بعبدي من حداثة سنه ، حتى إذا بلغ الأربعين قيل : احفظا وحققا" فكان راوي هذا الحديث إذا ذكر هذا الحديث بكى حتى تبتل لحيته ، رواه القاضي في "التفسير" .
المسألة الثانية : اعلم أن قوله : ( حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة ) يدل على أن الإنسان كالمحتاج إلى مراعاة الوالدين له إلى قريب من هذه المدة ، وذلك لأن العقل كالناقص ، فلا بد له من رعاية الأبوين على رعاية المصالح ودفع الآفات ، وفيه تنبيه على أن بعد دخوله في الوجود تمتد إلى هذه المدة الطويلة ، وذلك يدل على أن نعم الوالدين كأنه يخرج عن وسع الإنسان مكافأتهما إلا بالدعاء والذكر الجميل . نعم الوالدين على الولد
المسألة الثالثة : حكى الواحدي عن وقوم كثير من متأخري المفسرين ومتقدميهم أن هذه الآية نزلت في ابن عباس رضي الله عنه ، قالوا : والدليل عليه أن الله تعالى قد وقت الحمل والفصال ههنا بمقدار يعلم أنه قد ينقص وقد يزيد عنه بسبب اختلاف الناس في هذه الأحوال فوجب أن يكون المقصود منه شخصا واحدا حتى يقال : إن هذا التقدير إخبار عن حاله فيمكن أن يكون أبي بكر الصديق أبو بكر كان حمله وفصاله هذا القدر .
ثم قال تعالى في صفة ذلك الإنسان : ( حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر [ ص: 18 ] نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي ) ومعلوم أنه ليس كل إنسان يقول هذا القول ، فوجب أن يكون المراد من هذه الآية إنسانا معينا قال هذا القول ، وأما أبو بكر فقد قال هذا القول في قريب من هذا السن ؛ لأنه كان أقل سنا من النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين وشيء ، والنبي صلى الله عليه وسلم بعث عند الأربعين وكان أبو بكر قريبا من الأربعين وهو قد صدق النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به ، فثبت بما ذكرناه أن هذه الآيات صالحة لأن يكون المراد منها أبو بكر ، وإذا ثبت القول بهذه الصلاحية فنقول : ندعي أنه هو المراد من هذه الآية ، ويدل عليه أنه تعالى قال في آخر هذه الآية : ( أولئك الذين نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة ) وهذا يدل على أن المراد من هذه الآية أفضل الخلق لأن الذي يتقبل الله عنه أحسن أعماله ويتجاوز عن كل سيئاته يجب أن يكون من أفاضل الخلق وأكابرهم ، وأجمعت الأمة على أن إما أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر وإما علي ، ولا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية رضي الله عنه ؛ لأن هذه الآية إنما تليق بمن أتى بهذه الكلمة عند بلوغ الأشد وعند القرب من الأربعين ، علي بن أبي طالب ما كان كذلك لأنه إنما آمن في زمان الصبا أو عند القرب من الصبا ، فثبت أن المراد من هذه الآية هو وعلي بن أبي طالب أبو بكر والله أعلم .