( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين ) .
قوله تعالى : ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين قالوا ياقومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ياقومنا أجيبوا داعي الله وآمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم ويجركم من عذاب أليم ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض وليس له من دونه أولياء أولئك في ضلال مبين ) .
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما بين أن في الإنس من آمن وفيهم من كفر ، بين أيضا أن ، وفي كيفية هذه الواقعة قولان : الجن فيهم من آمن وفيهم من كفر ، وأن مؤمنهم معرض للثواب ، وكافرهم معرض للعقاب
الأول : قال : كانت الجن تستمع فلما رجموا قالوا : هذا الذي حدث في السماء إنما حدث لشيء في الأرض فذهبوا يطلبون السبب ، وكان قد اتفق أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أيس من سعيد بن جبير أهل مكة أن يجيبوه خرج إلى الطائف ليدعوهم إلى الإسلام ، فلما انصرف إلى مكة ، وكان ببطن نخل قام يقرأ القرآن في صلاة الفجر ، فمر به نفر من أشراف ، لأن إبليس بعثهم ليعرفوا جن نصيبين ، فسمعوا القرآن وعرفوا أن ذلك هو السبب . السبب الذي أوجب حراسة السماء بالرجم
والقول الثاني : أن الله تعالى أمر رسوله أن ينذر الجن ويدعوهم إلى الله تعالى ويقرأ عليهم القرآن ، فصرف الله إليه نفرا من الجن ليستمعوا منه القرآن وينذروا قومهم .
ويتفرع على ما ذكرناه فروع :
الأول : نقل عن القاضي في تفسيره الجن أنه قال : إنهم كانوا يهودا ؛ لأن اليهود والنصارى والمجوس وعبدة الأصنام ، وأطبق المحققون على أن في الجن مللا كما في الإنس من ، سئل الجن مكلفون : ابن عباس فقال : نعم لهم ثواب وعليهم عقاب ، يلتقون في الجنة ويزدحمون على أبوابها . هل للجن ثواب؟
الفرع الثاني : قال صاحب "الكشاف" : النفر دون العشرة ويجمع على أنفار ، ثم روى [ ص: 28 ] عن محمد بن جرير الطبري : أن أولئك الجن كانوا سبعة نفر من أهل ابن عباس نصيبين ، فجعلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم رسلا إلى قومهم ، وعن كانوا تسعة أحدهم زر بن حبيش زوبعة ، وعن قتادة ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من ساوة .
الفرع الثالث : اختلفوا في أنه مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ عبد الله بن مسعود والروايات فيه مختلفة ومشهورة . هل كان
الفرع الرابع : روى القاضي في تفسيره عن أنس قال : "كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جبال مكة إذ أقبل شيخ متوكئ على عكازة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : مشية جني ونغمته ، فقال : أجل ، فقال : من أي الجن أنت؟ فقال : أنا هامة بن هيم بن لاقيس بن إبليس ، فقال : لا أرى بينك وبين إبليس إلا أبوين فكم أتى عليك؟ فقال : أكلت عمر الدنيا إلا أقلها ، وكنت وقت قتل قابيل هابيل أمشي بين الآكام ، وذكر كثيرا مما مر به ، وذكر في جملته أن قال : قال لي عيسى بن مريم : إن لقيت محمدا فأقرئه مني السلام ، وقد بلغت سلامه وآمنت بك ، فقال عليه السلام : وعلى عيسى السلام ، وعليك يا هامة ما حاجتك؟ فقال : إن موسى عليه السلام علمني التوراة ، وعيسى علمني الإنجيل ، فعلمني القرآن ، فعلمه عشر سور ، وقبض صلى الله عليه وسلم ولم ينعه " قال : ولا أراه إلا حيا ، واعلم أن تمام الكلام في قصة الجن مذكور في سورة الجن . عمر بن الخطاب
المسألة الثانية : اختلفوا في تفسير قوله : ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن ) فقال بعضهم : لما لم يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم قراءة القرآن عليهم ، فهو تعالى ألقى في قلوبهم ميلا وداعية إلى استماع القرآن ، فلهذا السبب قال : ( وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن ) .
ثم قال تعالى : ( فلما حضروه ) الضمير للقرآن أو لرسول الله : ( قالوا ) أي : قال بعضهم لبعض : ( أنصتوا ) أي : اسكتوا مستمعين ، يقال : أنصت لكذا واستنصت له ، فلما فرغ من القراءة : ( ولوا إلى قومهم منذرين ) ينذرونهم ، وذلك لا يكون إلا بعد إيمانهم ، لأنهم لا يدعون غيرهم إلى استماع القرآن والتصديق به إلا وقد آمنوا ، فعنده : ( قالوا ياقومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى ) ووصفوه بوصفين :
الأول : كونه : ( مصدقا لما بين يديه ) أي : مصدقا لكتب الأنبياء ، والمعنى أن فكذلك هذا الكتاب مشتمل على هذه المعاني . كتب سائر الأنبياء كانت مشتملة على الدعوة إلى التوحيد والنبوة والمعاد والأمر بتطهير الأخلاق
الثاني : قوله : ( يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم ) .
واعلم أن الوصف الأول يفيد أن هذا الكتاب يماثل سائر الكتب الإلهية في الدعوة إلى هذه المطالب العالية الشريفة ، والوصف الثاني يفيد أن هذه المطالب التي اشتمل القرآن عليها مطالب حقة صدق في أنفسها ، يعلم كل أحد بصريح عقله كونها كذلك ، سواء وردت الكتب الإلهية قبل ذلك بها أو لم ترد ، فإن قالوا : كيف قالوا : ( من بعد موسى ) ؟ قلنا : قد نقلنا عن الحسن أنه قال : إنهم كانوا على اليهودية ، وعن أن الجن ما سمعت أمر ابن عباس عيسى فلذلك قالوا : من بعد موسى ، ثم إن الجن لما وصفوا القرآن بهذه الصفات الفاضلة قالوا : ( ياقومنا أجيبوا داعي الله ) واختلفوا في أنه هل المراد بداعي الله الرسول أو الواسطة التي تبلغ عنه؟ والأقرب أنه هو الرسول لأنه هو الذي يطلق عليه هذا الوصف .
واعلم أن قوله : ( أجيبوا داعي الله ) فيه مسألتان :
المسألة الأولى : هذه الآية تدل على ، قال مقاتل : ولم يبعث الله نبيا إلى الإنس والجن قبله . أنه صلى الله عليه وسلم كان مبعوثا إلى الجن كما كان مبعوثا إلى الإنس
[ ص: 29 ] المسألة الثانية : قوله : ( أجيبوا داعي الله ) أمر بإجابته في كل ما أمر به ، فيدخل فيه الأمر بالإيمان إلا أنه أعاد ذكر الإيمان على التعيين ، لأجل أنه أهم الأقسام وأشرفها ، وقد جرت عادة القرآن بأنه يذكر اللفظ العام ثم يعطف عليه أشرف أنواعه كقوله : ( وملائكته ورسله وجبريل ) [البقرة : 98] وقوله : ( وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح ) [الأحزاب : 7] ولما أمر بالإيمان به ذكر فائدة ذلك الإيمان وهي قوله : ( يغفر لكم من ذنوبكم ) وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال بعضهم : كلمة "من " ههنا زائدة والتقدير : يغفر لكم ذنوبكم ، وقيل : بل الفائدة فيه أن كلمة "من" ههنا لابتداء الغاية ، فكان المعنى أنه يقع ابتداء الغفران بالذنوب ، ثم ينتهي إلى غفران ما صدر عنكم من ترك الأولى والأكمل .
المسألة الثانية : اختلفوا في أن فقيل : لا ثواب لهم إلا النجاة من النار ، ثم يقال لهم : كونوا ترابا مثل البهائم ، واحتجوا على صحة هذا المذهب بقوله تعالى : ( الجن هل لهم ثواب أم لا؟ ويجركم من عذاب أليم ) وهو قول ، والصحيح أنهم في حكم بني آدم فيستحقون الثواب على الطاعة والعقاب على المعصية ، وهذا القول قول أبي حنيفة ابن أبي ليلى ومالك ، وجرت بينه وبين في هذا الباب مناظرة ، قال أبي حنيفة الضحاك : يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون ، والدليل على صحة هذا القول أن ، والفرق بين البابين بعيد جدا . كل دليل دل على أن البشر يستحقون الثواب على الطاعة فهو بعينه قائم في حق الجن
واعلم أن ذلك الجني لما أمر قومه بإجابة الرسول والإيمان به حذرهم من تلك الإجابة فقال : ( ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض ) أي لا ينجي منه مهرب ولا يسبق قضاءه سابق ، ونظيره قوله تعالى : ( وأنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا ) [الجن : 12] ولا نجد له أيضا وليا ولا نصيرا ، ولا دافعا من دون الله ثم بين أنهم في ضلال مبين .