[ ص: 46 ] : ( وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم ) قوله تعالى : ( وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم )
لما ضرب الله تعالى لهم مثلا بقوله : ( أفلم يسيروا في الأرض ) ولم ينفعهم مع ما تقدم من الدلائل ضرب للنبي عليه السلام مثلا تسلية له فقال : ( وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم ) وكانوا أشد من أهل مكة كذلك نفعل بهم ، فاصبر كما صبر رسلهم ، وقوله : ( فلا ناصر لهم ) قال : كيف قوله : ( الزمخشري فلا ناصر لهم ) مع أن الإهلاك ماض ، وقوله : ( فلا ناصر لهم ) للحال والاستقبال ؟ والجواب أنه محمول على الحكاية والحكاية كالحال الحاضر ، ويحتمل أن يقال : أهلكناهم في الدنيا فلا ناصر لهم ينصرهم ويخلصهم من العذاب الذي هم فيه ، ويحتمل أن يقال قوله : ( فلا ناصر لهم ) عائد إلى أهل قرية محمد عليه السلام كأنه قال : أهلكنا من تقدم أهل قريتك ولا ناصر لأهل قريتك ينصرهم ويخلصهم مما جرى على الأولين .
ثم قال تعالى : ( أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم ) .
اعلم أن هذا إشارة إلى الفرق بين النبي عليه السلام والكفار ليعلم أن ، وأن الحال يناسب تعذيب الكافر وإثابة المؤمن ، وقوله : ( إهلاك الكفار ونصرة النبي عليه السلام في الدنيا محقق على بينة ) فرق فارق ، وقوله : ( من ربه ) مكمل له ، وذلك أن البينة إذا كانت نظرية تكون كافية للفرق بين المتمسك بها وبين القائل قولا لا دليل عليه ، فإذا كانت البينة منزلة من الله تعالى تكون أقوى وأظهر فتكون أعلى وأبهر ، ويحتمل أن يقال قوله : ( من ربه ) ليس المراد إنزالها منه بل المراد كونها من الرب بمعنى قوله : ( يهدي من يشاء ) [البقرة : 142] وقولنا الهداية من الله ، وكذلك قوله تعالى : ( كمن زين له سوء عمله ) فرق فارق ، وقوله : ( واتبعوا أهواءهم ) تكملة . وذلك أن من زين له سوء عمله وراجت الشبهة عليه في مقابلة من يتبين له البرهان وقبله ، لكن من راجت الشبهة عليه قد يتفكر في الأمر ويرجع إلى الحق ، فيكون أقرب إلى من هو على البرهان ، وقد يتبع هواه ولا يتدبر في البرهان ولا يتفكر في البيان فيكون في غاية البعد ، فإذن حصل للنبي صلى الله عليه وسلم ، والمؤمن مع الكافر في طرفي التضاد وغاية التباعد حتى مدهم بالبينة ، والكافر له الشبهة وهو مع الله وأولئك مع الهوى وعلى قولنا : ( من ربه ) معناه الإضافة إلى الله ، كقولنا الهداية من الله ، فقوله : ( واتبعوا أهواءهم ) مع ذلك القول يفيد معنى قوله تعالى : ( ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك ) [النساء : 79] وقوله : ( كمن زين له سوء عمله ) بصيغة التوحيد محمول على لفظة من ، وقوله : ( واتبعوا أهواءهم ) محمول على معناه فإنها للجميع والعموم ، وذلك لأن التزيين للكل على حد واحد فحمل على اللفظ لقربه منه في الحس والذكر ، وعند اتباع الهوى كل أحد يتبع هوى نفسه ، فظهر التعدد فحمل على المعنى .