( إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم )
ثم قال تعالى ( إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله ثم ماتوا وهم كفار فلن يغفر الله لهم ) .
بين أن حتى لا يظن ظان أن أعمالهم وإن بطلت لكن فضل الله باق يغفر لهم بفضله ، وإن لم يغفر لهم بعملهم . الله لا يغفر الشرك وما دون ذلك يغفره إن شاء
ثم قال تعالى ( فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم ) .
لما بين أن عمل الكافر الذي له صورة الحسنات محبط ، وذنبه الذي هو أقبح السيئات غير مغفور ، بين أن لا حرمة في الدنيا ولا في الآخرة ، وقد بقوله : ( أمر الله تعالى بطاعة الرسول وأطيعوا الرسول ) وأمر بالقتال بقوله : ( فلا تهنوا ) أي لا تضعفوا بعد ما وجد السبب في الجد في الأمر والاجتهاد في الجهاد فقاله : ( فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم ) وفي الآيات ترتيب في غاية الحسن ، وذلك لأن قوله : ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ) يقتضي السعي في القتال لأن أمر الله وأمر الرسول ورد بالجهاد وقد أمروا بالطاعة ، فذلك يقتضي أن لا يضعف المكلف ولا يكسل ولا يهن ولا يتهاون ، ثم إن بعد المقتضى قد يتحقق مانع ولا يتحقق المسبب ، والمانع من القتال إما أخروي وإما دنيوي ، فذكر الأخروي وهو أن الكافر لا حرمة له في الدنيا والآخرة ، لأنه لا عمل له في الدنيا ولا مغفرة له في الآخرة ، فإذا وجد السبب ولم يوجد المانع ينبغي أن يتحقق المسبب ، ولم يقدم المانع الدنيوي على قوله : ( فلا تهنوا ) إشارة إلى أن الأمور الدنيوية لا ينبغي أن تكون مانعة من الإتيان ، فلا تهنوا فإن لكم النصر ، أو عليكم بالعزيمة على تقدير الاعتزام للهزيمة .
ثم قال تعالى بعد ذلك المانع الدنيوي مع أنه لا ينبغي أن يكون مانعا ليس بموجود أيضا حيث : ( أنتم الأعلون ) والأعلون والمصطفون في الجمع حالة الرفع معلوم الأصل ، ومعلوم أن الأمر كيف آل إلى هذه الصيغة في التصريف ، وذلك لأن أصله في الجمع الموافق أعليون ومصطفيون فسكنت الياء لكونها حرف علة فتحرك ما قبلها ، والواو كانت ساكنة فالتقى ساكنان ولم يكن بد من حذف أحدهما أو تحريكه ، والتحريك كان يوقع في المحذور الذي اجتنب منه فوجب الحذف ، والواو كانت فيه لمعنى لا يستفاد إلا منها وهو الجمع فأسقطت الياء وبقي أعلون ، وبهذا الدليل صار في الجر أعلين ومصطفين ، وقوله تعالى : ( والله معكم ) هداية وإرشاد يمنع المكلف من الإعجاب بنفسه ، وذلك لأنه تعالى لما قال : ( وأنتم الأعلون ) كان ذلك سبب الافتخار فقال : ( والله معكم ) يعني ليس ذلك من أنفسكم بل من الله ، أو نقول لما قال : [ ص: 64 ] : ( وأنتم الأعلون ) فكان المؤمنون يرون ضعف أنفسهم وقلتهم مع كثرة الكفار وشوكتهم وكان يقع في نفس بعضهم أنهم كيف يكون لهم الغلبة فقال : إن الله معكم لا يبقى لكم شك ولا ارتياب في أن الغلبة لكم وهذا كقوله تعالى : ( لأغلبن أنا ورسلي ) [المجادلة : 21] وقوله : ( وإن جندنا لهم الغالبون ) [الصافات : 173] وقوله : ( ولن يتركم أعمالكم ) [محمد : 35] وعد آخر وذلك لأن الله لما قال : إن الله معكم ، كان فيه أن النصرة بالله لا بكم فكان القائل يقول لم يصدر مني عمل له اعتبار فلا أستحق تعظيما ، فقال هو ينصركم ومع ذلك لا ينقص من أعمالكم شيئا ، ويجعل كأن النصرة جعلت بكم ومنكم فكأنكم مستقلون في ذلك ويعطيكم أجر المستبد ، والترة النقص ، ومنه الموتر كأنه نقص منه ما يشفعه ، ويقول عند القتال : إن قتل من الكافرين أحد فقد وتروا في أهلهم وعملهم حيث نقص عددهم وضاع عملهم ، والمؤمن إن قتل فإنما ينقص من عدده ولم ينقص من عمله ، وكيف ولم ينقص من عدده أيضا ، فإنه حي مرزوق فرح بما هو إليه مسوق .