( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما )
[ ص: 92 ] ثم قال تعالى : ( هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا ) .
تأكيدا لبيان ، وذلك لأنه لما كان مرسلا لرسوله ليهدي ، لا يريد ما لا يكون مهديا للناس فيظهر خلافه ، فيقع ذلك سببا للضلال ، ويحتمل وجوها أقوى من ذلك ، وهو أن الرؤيا بحيث توافق الواقع لغير الرسل ، لكن رؤية الأشياء قبل وقوعها في اليقظة لا تقع لكل أحد ، فقال تعالى : ( صدق الله في رسوله الرؤيا هو الذي أرسل رسوله بالهدى ) وحكى له ما سيكون في اليقظة ، ولا يبعد من أن يريه في المنام ما يقع فلا استبعاد في صدق رؤياه ، وفيها أيضا بيان وقوع الفتح ودخول مكة بقوله تعالى : ( ليظهره على الدين كله ) أي من يقويه على الأديان لا يستبعد منه فتح مكة له و ( الهدى ) يحتمل أن يكون هو القرآن كما قال تعالى : ( أنزل فيه القرآن هدى للناس ) [ البقرة : 185 ] وعلى هذا ( دين الحق ) هو ما فيه من الأصول والفروع ، ويحتمل أن يكون الهدى هو المعجزة ، أي أرسله بالحق أي مع الحق إشارة إلى ما شرع ، ويحتمل أن يكون الهدى هو الأصول و ( دين الحق ) هو الأحكام ، وذلك لأن من الرسل من لم يكن له أحكام بل بين الأصول فحسب ، والألف واللام في ( الهدى ) يحتمل أن تكون للاستغراق أي كل ما هو هدى ، ويحتمل أن تكون للعهد وهو قوله تعالى : ( ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ) [ الزمر : 23 ] وهو إما القرآن ؛ لقوله تعالى : ( كتابا متشابها مثاني تقشعر ) [ الزمر : 23 ] إلى أن قال : ( ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ) [ الزمر : 23 ] ، وإما ما اتفق عليه الرسل ؛ لقوله تعالى : ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ) [ الأنعام : 90 ] والكل من باب واحد ؛ لأن ما في القرآن موافق لما اتفق عليه الأنبياء ، وقوله تعالى : ( ودين الحق ) يحتمل وجوها :
أحدها : أن يكون فيكون كأنه قال : بالهدى ودين الله . الحق اسم الله تعالى
وثانيها : أن يكون الحق نقيض الباطل ، فيكون كأنه قال : ودين الأمر الحق .
وثالثها : أن يكون المراد به الانقياد إلى الحق والتزامه ( ليظهره ) أي أرسله بالهدى وهو المعجز على أحد الوجوه ( ليظهره على الدين كله ) أي جنس الدين ، فينسخ الأديان دون دينه ، وأكثر المفسرين على أن الهاء في قوله : ( ليظهره ) راجعة إلى الرسول ، والأظهر أنه راجع إلى دين الحق ، أي ليظهره ، أي ليظهر الدين الحق على الأديان ، وعلى هذا فيحتمل أن يكون الفاعل للإظهار هو الله ، ويحتمل أن يكون هو النبي أي ليظهر النبي دين الحق ، وقوله تعالى : ( أرسل الرسول بالدين الحق وكفى بالله شهيدا ) أي في أنه رسول الله وهذا مما يسلي قلب المؤمنين فإنهم تأذوا من رد الكفار عليهم العهد المكتوب ، وقالوا : لا نعلم أنه رسول الله ، فلا تكتبوا : محمد رسول الله ، بل اكتبوا محمد بن عبد الله ، فقال تعالى : ( وكفى بالله شهيدا ) في أنه رسول الله ، وفيه معنى لطيف ، وهو أن قول الله مع أنه كاف في كل شيء ، لكنه في الرسالة أظهر كفاية ؛ لأن [ ص: 93 ] الرسول لا يكون إلا بقول المرسل ، فإذا قال ملك : هذا رسولي ، لو أنكر كل من في الدنيا أنه رسول فلا يفيد إنكارهم ، فقال تعالى أي خلل في رسالته بإنكارهم مع تصديقي إياه بأنه رسولي ، وقوله : ( محمد رسول الله ) فيه وجوه :
أحدها : خبر مبتدأ محذوف تقديره : هو محمد الذي سبق ذكره بقوله : ( أرسل رسوله ) ورسول الله عطف بيان .
وثانيها : أن محمدا مبتدأ خبره رسول الله وهذا تأكيد لما تقدم ؛ لأنه لما قال : ( هو الذي أرسل رسوله ) ولا تتوقف رسالته إلا على شهادته ، وقد شهد له بها محمد رسول الله من غير نكير ، وثالثها : وهو مستنبط وهو أن يقال : ( محمد ) مبتدأ و ( رسول الله ) عطف بيان سيق للمدح لا للتمييز ( والذين معه ) عطف على : محمد ، وقوله : ( أشداء ) خبره ، كأنه تعالى قال : ( والذين معه ) جميعهم ( أشداء على الكفار رحماء بينهم ) لأن وصف الشدة والرحمة وجد في جميعهم ، أما في المؤمنين فكما في قوله تعالى : ( أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ) [ المائدة : 54 ] وأما في حق النبي - صلى الله عليه وسلم - فكما في قوله : ( واغلظ عليهم ) [ التوبة : 73 ] وقال في حقه : ( بالمؤمنين رءوف رحيم ) [ التوبة : 128 ] وعلى هذا قوله : ( تراهم ) لا يكون خطابا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بل يكون عاما أخرج مخرج الخطاب تقديره : أيها السامع كائنا من كان ، كما قلنا : إن الواعظ يقول انتبه قبل أن يقع الانتباه ، ولا يريد به واحدا بعينه ، وقوله تعالى : ( يبتغون فضلا من الله ورضوانا ) لتمييز ركوعهم وسجودهم عن ركوع الكفار وسجودهم ، وركوع المرائي وسجوده ، فإنه لا يبتغي به ذلك . وفيه إشارة إلى معنى لطيف وهو أن الله تعالى قال : الراكعون والساجدون ( فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله ) [ النساء : 173 ] وقال : الراكع يبتغي الفضل ولم يذكر الأجر ؛ لأن الله تعالى إذا قال لكم أجر كان ذلك منه تفضلا ، وإشارة إلى أن عملكم جاء على ما طلب الله منكم ؛ لأن الأجرة لا تستحق إلا على العمل الموافق للطلب من المالك ، والمؤمن إذا قال أنا أبتغي فضلك يكون منه اعترافا بالتقصير فقال : ( يبتغون فضلا من الله ) ولم يقل أجرا .
وقوله تعالى : ( سيماهم في وجوههم من أثر السجود ) فيه وجهان :
أحدها : أن ذلك يوم القيامة ، كما قال تعالى : ( يوم تبيض وجوه ) [ آل عمران : 106 ] وقال تعالى : ( نورهم يسعى ) [ التحريم : 8 ] وعلى هذا فنقول : كما قال نورهم في وجوههم بسبب توجههم نحو الحق إبراهيم عليه السلام : ( إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض ) [ الأنعام : 79 ] ومن يحاذي الشمس يقع شعاعها على وجهه ، فيتبين على وجهه النور منبسطا ، مع أن الشمس لها نور عارضي يقبل الزوال ، والله نور السماوات والأرض فمن يتوجه إلى وجهه يظهر في وجهه نور يبهر الأنوار .
وثانيهما : أن ذلك في الدنيا وفيه وجهان :
أحدهما : أن المراد ما يظهر في الجباه بسبب كثرة السجود .
والثاني : ، وهذا محقق لمن يعقل فإن رجلين يسهران بالليل ، أحدهما قد اشتغل بالشراب واللعب ، والآخر قد اشتغل بالصلاة والقراءة واستفادة العلم ، فكل أحد في اليوم الثاني يفرق بين الساهر في الشرب واللعب ، وبين الساهر في الذكر والشكر . ما يظهره الله تعالى في وجوه الساجدين ليلا من الحسن نهارا
وقوله تعالى : ( ذلك مثلهم في التوراة ) فيه ثلاثة أوجه مذكورة : أحدها : أن يكون ( ذلك ) مبتدأ ، و ( مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل ) خبرا له ، وقوله تعالى : ( كزرع أخرج شطأه ) خبر مبتدأ محذوف تقديره ، ومثلهم في التوراة ، ومثلهم في الإنجيل كزرع .
وثانيها : أن يكون خبر ذلك هو قوله : ( مثلهم في التوراة ) ، وقوله : ( ومثلهم في الإنجيل ) مبتدأ وخبره كزرع . وثالثها : أن يكون ذلك إشارة غير معينة أوضحت [ ص: 94 ] بقوله تعالى : ( كزرع ) كقوله : ( ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين ) [ الحجر : 66 ] ، وفيه وجه رابع : وهو أن يكون ذلك خبرا له مبتدأ محذوف تقديره : هذا الظاهر في وجوههم ذلك يقال ظهر في وجهه أثر الضرب ، فنقول : أي والله ذلك أي هذا ذلك الظاهر ، أو الظاهر الذي تقوله ذلك .
وقوله تعالى : ( ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ) .
أي وصفوا في الكتابين به ومثلوا بذلك ، وإنما جعلوا كالزرع ؛ لأنه أول ما يخرج يكون ضعيفا وله نمو إلى حد الكمال ، فكذلك المؤمنون ، والشطء : الفرخ ، و ( فآزره ) يحتمل أن يكون المراد أخرج الشطء وآزر الشطء ، وهو أقوى وأظهر ، والكلام يتم عند قوله : ( يعجب الزراع ) .
وقوله تعالى : ( ليغيظ بهم الكفار ) أي تنمية الله ذلك ليغيظ أو يكون الفعل المعلل هو .
وقوله تعالى : ( وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) أي وعد ( ليغيظ بهم الكفار ) يقال : رغما لأنفك أنعم عليه .
وقوله تعالى : ( منهم مغفرة وأجرا عظيما ) لبيان الجنس لا للتبعيض ، ويحتمل أن يقال : هو للتبعيض ، ومعناه : ليغيظ الكفار والذين آمنوا من الكفار لهم الأجر العظيم ، والعظيم والمغفرة قد تقدم مرارا ، والله تعالى أعلم . وههنا لطيفة وهو أنه تعالى قال في حق الراكعين والساجدين إنهم ( يبتغون فضلا من الله ) وقال : لهم أجر ، ولم يقل لهم ما يطلبونه من ذلك الفضل ؛ وذلك لأن المؤمن عند العمل لم يلتفت إلى عمله ولم يجعل له أجرا يعتد به ، فقال : لا أبتغي إلا فضلك ، فإن عملي نزر لا يكون له أجر ، والله تعالى آتاه ما آتاه من الفضل ، وسماه أجرا إشارة إلى قبول عمله ووقعه الموقع ، وعدم كونه عند الله نزرا لا يستحق عليه المؤمن أجرا ، وقد علم بما ذكرنا مرارا أن قوله : ( وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) لبيان فإن كل مؤمن يغفر له كما قال تعالى : ( ترتب المغفرة على الإيمان إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) [ النساء : 48 ] والأجر العظيم على العمل الصالح ، والله أعلم .
قال المصنف رحمه الله تعالى : تم تفسير هذه السورة يوم الخميس السابع عشر من شهر ذي الحجة سنة ثلاث وستمائة من الهجرة النبوية ، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام ، والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد المرسلين ، وعلى آله وصحبه أجمعين .