( ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم والله غفور رحيم يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين )
ثم قال تعالى : ( ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم ) إشارة إلى حسن الأدب الذي على خلاف ما أتوا به من سوء الأدب ، فإنهم لو صبروا لما احتاجوا إلى النداء ، وإذا كنت تخرج إليهم فلا يصح إتيانهم في وقت اختلائك بنفسك أو بأهلك أو بربك ، فإن للنفس حقا وللأهل حقا ، وقوله تعالى : ( لكان خيرا لهم ) يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يكون المراد أن ذلك هو الحسن والخير ، كقوله تعالى : ( خير مستقرا ) [ الفرقان : 24 ].
وثانيهما : أن يكون المراد هو أن بالنداء وعدم الصبر يستفيدون تنجيز الشغل ودفع الحاجة في الحال ، وهو مطلوب ، ولكن خير من ذلك ؛ لأنها تدفع الحاجة الأصلية التي في الآخرة ، وحاجات الدنيا فضلية ، والمرفوع الذي يقتضيه كلمة " كان " إما الصبر وتقديره : لو أنهم صبروا لكان الصبر خيرا ، أو الخروج من غير نداء وتقديره : لو صبروا حتى تخرج إليهم لكان خروجك من غير نداء خيرا لهم ، وذلك مناسب للحكاية ؛ لأنهم طلبوا خروجه عليه الصلاة والسلام ليأخذوا ذراريهم ، فخرج وأعتق نصفهم وأخذوا نصفهم ، ولو صبروا لكان يعتق كلهم ، والأول أصح . المحافظة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وتعظيمه
ثم قال تعالى : ( والله غفور رحيم ) تحقيقا لأمرين : أحدهما : لسوء صنيعهم في التعجل ، فإن الإنسان إذا أتى بقبيح ولا يعاقبه الملك أو السيد يقال : ما أحلم سيده لا لبيان حلمه ، بل لبيان عظيم جناية العبد . وثانيهما : لحسن الصبر يعني بسبب إتيانهم بما هو خير ، يغفر الله لهم سيئاتهم ويجعل هذه الحسنة كفارة [ ص: 102 ] لكثير من السيئات ، كما يقال للآبق إذا رجع إلى باب سيده : أحسنت في رجوعك وسيدك رحيم ، أي لا يعاقبك على ما تقدم من ذنبك بسبب ما أتيت به من الحسنة . ويمكن أن يقال بأن ذلك حث للنبي - صلى الله عليه وسلم - على الصفح ، وقوله تعالى : ( أكثرهم لا يعقلون ) كالعذر لهم ، وقد ذكرنا أن الله تعالى ذكر في بعض المواضع الغفران قبل الرحمة كما في هذه السورة ، وذكر الرحمة قبل المغفرة في سورة سبأ في قوله : ( وهو الرحيم الغفور ) [ سبأ : 2 ] فحيث قال : ( غفور رحيم ) أي يغفر سيئاته ثم ينظر إليه فيراه عاريا محتاجا فيرحمه ويلبسه لباس الكرامة ، وقد يراه مغمورا في السيئات فيغفر سيئاته ، ثم يرحمه بعد المغفرة ، فتارة تقع الإشارة إلى الرحمة التي بعد المغفرة فيقدم المغفرة ، وتارة تقع الرحمة قبل المغفرة فيؤخرها ، ولما كانت الرحمة واسعة توجد قبل المغفرة وبعدها ذكرها قبلها وبعدها .
ثم قال تعالى ( ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين )
هذه السورة فيها إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق ، وهي إما مع الله تعالى أو مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - أو مع غيرهم من أبناء الجنس ، وهم على صنفين ؛ لأنهم إما أن يكونوا على طريقة المؤمنين وداخلين في رتبة الطاعة ، أو خارجا عنها وهو الفاسق ، والداخل في طائفتهم السالك لطريقتهم إما أن يكون حاضرا عندهم أو غائبا عنهم ، فهذه خمسة أقسام : أحدها :
يتعلق بجانب الله .
وثانيها : بجانب الرسول .
وثالثها : بجانب الفساق .
ورابعها : بالمؤمن الحاضر .
وخامسها : بالمؤمن الغائب ، فذكرهم الله تعالى في هذه السورة خمس مرات ( يا أيها الذين آمنوا ) وأرشدهم في كل مرة إلى مكرمة مع قسم من الأقسام الخمسة ، فقال أولا : ( ياأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله ) وذكر الرسول كان لبيان طاعة الله ؛ لأنها لا تعلم إلا بقول رسول الله ، وقال ثانيا : ( ياأيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ) لبيان - وقال ثالثا : ( وجوب احترام النبي - صلى الله عليه وسلم ياأيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ ) لبيان وجوب الاحتراز عن الاعتماد على أقوالهم ، فإنهم يريدون إلقاء الفتنة بينكم وبين ذلك عند تفسير قوله : ( وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ) [ الحجرات : 9 ] ، وقال رابعا : ( ياأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم ) [ الحجرات : 11 ] وقال : ( ولا تنابزوا ) [ الحجرات : 11 ] لبيان في حضورهم والازدراء بحالهم ومنصبهم ، وقال خامسا : ( وجوب ترك إيذاء المؤمنين ياأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ) [ الحجرات : 12 ] وقال : ( ولا تجسسوا ) [ الحجرات : 12 ] وقال : ( ولا يغتب بعضكم بعضا ) لبيان وجوب ، وذكر ما لو كان حاضرا لتأذى ، وهو في غاية الحسن من الترتيب ، فإن قيل : لم لم يذكر المؤمن قبل الفاسق لتكون المراتب متدرجة الابتداء بالله ورسوله ، ثم بالمؤمن الحاضر ، ثم بالمؤمن الغائب ، ثم بالفاسق ؟ نقول : قدم الله ما هو الأهم على ما دونه ، فذكر جانب الله ، ثم ذكر جانب الرسول ، ثم ذكر ما يفضي إلى الاقتتال بين طوائف المسلمين بسبب الإصغاء إلى كلام الفاسق والاعتماد عليه ، فإنه يذكر كل ما كان أشد نفارا للصدور ، وأما المؤمن الحاضر أو الغائب ، فلا يؤذي المؤمن إلى حد يفضي إلى القتل ، ألا ترى أن الله تعالى ذكر عقيب نبأ الفاسق آية الاقتتال ، فقال : ( الاحتراز عن إهانة جانب المؤمن حال غيبته وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا ) وفي التفسير مسائل :
المسألة الأولى : في سبب نزول هذه الآية ، هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث ، وهو أخو الوليد بن عقبة عثمان لأمه [ ص: 103 ] إلى بني المصطلق وليا ومصدقا فالتقوه ، فظنهم مقاتلين ، فرجع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال : إنهم امتنعوا ومنعوا ، فهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالإيقاع بهم ، فنزلت هذه الآية ، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنهم لم يفعلوا من ذلك شيئا ، وهذا جيد إن قالوا بأن الآية نزلت في ذلك الوقت ، وأما إن قالوا بأنها نزلت لذلك مقتصرا عليه ومتعديا إلى غيره فلا ، بل نقول : هو نزل عاما لبيان التثبيت ، وترك الاعتماد على قول الفاسق ، ويدل على ضعف قول من يقول : إنها نزلت لكذا ، أن الله تعالى لم يقل : إني أنزلتها لكذا ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينقل عنه أنه بين أن الآية وردت لبيان ذلك فحسب ، غاية ما في الباب أنها نزلت في ذلك الوقت ، وهو مثل التاريخ لنزول الآية ، ونحن نصدق ذلك ، ويتأكد ما ذكرنا أن إطلاق لفظ الفاسق على الوليد شيء بعيد ؛ لأنه توهم وظن فأخطأ ، والمخطئ لا يسمى فاسقا ، وكيف والفاسق في أكثر المواضع المراد به من خرج عن ربقة الإيمان ؛ لقوله تعالى : ( إن الله لا يهدي القوم الفاسقين ) [ المنافقون : 6 ] وقوله تعالى : ( ففسق عن أمر ربه ) [ الكهف : 50 ] وقوله تعالى : ( وأما الذين فسقوا فمأواهم النار كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها ) [ السجدة : 20 ] إلى غير ذلك .
المسألة الثانية : قوله تعالى : ( إن جاءكم فاسق بنبإ ) إشارة إلى لطيفة ، وهي أن المؤمن كان موصوفا بأنه شديد على الكافر غليظ عليه ، فلا يتمكن الفاسق من أن يخبره بنبأ ، فإن تمكن منه يكون نادرا ، فقال : ( إن جاءكم ) بحرف الشرط الذي لا يذكر إلا مع التوقع ، إذ لا يحسن أن يقال : إن احمر البسر ، وإن طلعت الشمس .
المسألة الثالثة : ، كما أنها تعم في الإخبار إذا كانت في جانب النفي ، وتخص في معرض الشرط إذا كانت في جانب النفي ، كما تخص في الإخبار إذا كانت في جانب الثبوت ، فلنذكر بيانه بالمثال ودليله ، أما بيانه بالمثال فنقول : إذا قال قائل لعبده : إن كلمت رجلا فأنت حر ، فيكون كأنه قال : لا أكلم رجلا حتى يعتق بتكلم كل رجل ، وإذا قال : إن لم أكلم اليوم رجلا فأنت حر ، يكون كأنه قال : لا أكلم اليوم رجلا حتى لا يعتق العبد بترك كلام كل رجل ، كما لا يظهر الحلف في كلامه بكلام كل رجل إذا ترك الكلام مع رجل واحد ، وأما الدليل فلأن النظر أولا إلى جانب الإثبات ، ألا ترى أنه من غير حرف " لما " أن الوضع للإثبات والنفي بحرف ، فقول القائل : زيد قائم ، وضع أولا ولم يحتج إلى أن يقال مع ذلك حرف يدل على ثبوت القيام لزيد ، وفي جانب النفي احتجنا إلى أن نقول : زيد ليس بقائم ، ولو كان الوضع والتركيب أولا للنفي ، لما احتجنا إلى الحرف الزائد اقتصارا أو اختصارا ، وإذا كان كذلك فقول القائل : رأيت رجلا ، يكفي فيه ما يصحح القول وهو رؤية واحد ، فإذا قلت : ما رأيت رجلا ، وهو وضع لمقابلة قوله : رأيت رجلا ، وركب لتلك المقابلة ، والمتقابلان ينبغي أن لا يصدقا ، فقول القائل : ما رأيت رجلا ، لو كفى فيه انتفاء الرؤية عن غير واحد لصح قولنا : رأيت رجلا ، وما رأيت رجلا ، فلا يكونان متقابلين ، فيلزمنا من الاصطلاح الأول الاصطلاح الثاني ، ولزم منه العموم في جانب النفي . إذا علم هذا فنقول : الشرطية وضعت أولا ، ثم ركبت بعد الجزمية ، بدليل زيادة الحرف وهو في مقابلة الجزمية ، وكان قول القائل : إذا لم تكن أنت حرا ما كلمت رجلا ، يرجع إلى معنى النفي ، وكما علم عموم القول في الفاسق علم عمومه في النبأ ، فمعناه : أي فاسق جاءكم بأي نبأ ، فالتثبت فيه واجب . النكرة في معرض الشرط تعم إذا كانت في جانب الثبوت
المسألة الرابعة : متمسك أصحابنا في أن حجة ، خبر الواحد لا تقبل ، أما في المسألة [ ص: 104 ] الأولى فقالوا : علل الأمر بالتوقف بكونه فاسقا ، ولو كان خبر الواحد العدل لا يقبل لما كان للترتيب على الفاسق فائدة ، وهو من باب التمسك بالمفهوم . وأما في الثانية فلوجهين : وشهادة الفاسق
أحدهما : أمر بالتبين ، فلو قبل قوله لما كان الحاكم مأمورا بالتبين ، فلم يكن قول الفاسق مقبولا ، ثم إن الله تعالى أمر بالتبين في الخبر والنبأ ، وباب الشهادة أضيق من باب الخبر .
والثاني : هو أنه تعالى قال : ( أن تصيبوا قوما بجهالة ) والجهل فوق الخطأ ؛ لأن المجتهد إذا أخطأ لا يسمى جاهلا ، والذي يبني الحكم على قول الفاسق إن لم يصب جهل فلا يكون البناء على قوله جائزا .
المسألة الخامسة : ( أن تصيبوا ) ذكرنا فيها وجهين :
أحدهما : مذهب الكوفيين ، وهو أن المراد لئلا تصيبوا .
وثانيها : مذهب البصريين ، وهو أن المراد : كراهة أن تصيبوا ، ويحتمل أن يقال : المراد : فتبينوا واتقوا ، وقوله تعالى : ( أن تصيبوا قوما ) يبين ما ذكرنا أن يقول الفاسق : تظهر الفتن بين أقوام ، ولا كذلك بالألفاظ المؤذية في الوجه ، والغيبة الصادرة من المؤمنين ؛ لأن ، وقوله : ( المؤمن يمنعه دينه من الإفحاش والمبالغة في الإيحاش بجهالة ) في تقدير حال ، أي أن تصيبوهم جاهلين ، وفيه لطيفة وهي أن الإصابة تستعمل في السيئة والحسنة ، كما في قوله تعالى : ( ما أصابك من حسنة فمن الله ) [ النساء : 79 ] لكن الأكثر أنها تستعمل فيما يسوء ، لكن الظن السوء يذكر معه ، كما في قوله تعالى : ( وإن تصبهم سيئة ) [ الشورى : 48 ] ثم حقق ذلك بقوله : ( فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) بيانا لأن الجاهل لا بد من أن يكون على فعله نادما ، وقوله ( فتصبحوا ) معناه تصيروا ، قال النحاة : أصبح يستعمل على ثلاثة أوجه :
أحدها : بمعنى دخول الرجل في الصباح ، كما يقول القائل : أصبحنا نقضي عليه .
وثانيها : بمعنى كان الأمر وقت الصباح كذا وكذا ، كما يقول : أصبح اليوم مريضنا خيرا مما كان ، غير أنه تغير ضحوة النهار ، ويريد كونه في الصبح على حاله ، كأنه يقول : كان المريض وقت الصبح خيرا وتغير ضحوة النهار .
وثالثها : بمعنى صار ، يقول القائل : أصبح زيد غنيا ، ويريد به صار من غير إرادة وقت دون وقت ، والمراد ههنا هو المعنى الثالث وكذلك أمسى وأضحى ، ولكن لهذا تحقيق وهو أن نقول : لا بد في اختلاف الألفاظ من اختلاف المعاني واختلاف الفوائد ، فنقول : الصيرورة قد تكون من ابتداء أمر وتدوم ، وقد تكون في آخر بمعنى : آل الأمر إليه ، وقد تكون متوسطة .
مثال الأول : قول القائل : صار الطفل فاهما ، أي أخذ فيه وهو في الزيادة .
مثال الثاني : قول القائل : صار الحق بينا واجبا ، أي انتهى حده وأخذ حقه .
مثال الثالث : قول القائل : صار زيد عالما وقويا إذا لم يرد أخذه فيه ، ولا بلوغه نهايته ، بل كونه متلبسا به متصفا به ، إذا علمت هذا فأصل استعمال أصبح فيما يصير الشيء آخذا في وصف ومبتدئا في أمر ، وأصل أمسى فيما يصير الشيء بالغا في الوصف نهايته ، وأصل أضحى التوسط ، لا يقال : أهل الاستعمال لا يفرقون بين الأمور ويستعملون الألفاظ الثلاثة بمعنى واحد ، نقول : إذا تقاربت المعاني جاز الاستعمال ، وجواز الاستعمال لا ينافي الأصل ، وكثير من الألفاظ أصله مضي واستعمل استعمالا شائعا فيما لا يشاركه ، إذا علم هذا فنقول : قوله تعالى : ( فتصبحوا ) أي فتصيروا آخذين في الندم متلبسين به ثم تستديمونه ، وكذلك في قوله تعالى : ( فأصبحتم بنعمته إخوانا ) [ آل عمران : 103 ] أي أخذتم في الأخوة وأنتم فيها زائدون ومستمرون ، وفي الجملة اختار في القرآن هذه اللفظة ؛ لأن الأمر المقرون به هذه اللفظة إما في الثواب أو في العقاب ، وكلاهما [ ص: 105 ] في الزيادة ، ولا نهاية للأمور الإلهية ، وقوله تعالى : ( نادمين ) الندم هم دائم ، والنون والدال والميم في تقاليبها لا تنفك عن معنى الدوام ، كما في قول القائل : أدمن في الشرب ، ومدمن أي أقام ، ومنه المدينة . وقوله تعالى : ( فتصبحوا على ما فعلتم نادمين ) فيه فائدتان :
إحداهما : تقرير التحذير وتأكيده ، ووجهه هو أنه تعالى لما قال : ( أن تصيبوا قوما بجهالة ) قال بعده : وليس ذلك مما لا يلتفت إليه ، ولا يجوز للعاقل أن يقول : هب أني أصبت قوما فماذا علي ؟ بل عليكم منه الهم الدائم والحزن المقيم ، ومثل هذا الشيء واجب الاحتراز منه .
والثانية : مدح المؤمنين ، أي لستم ممن إذا فعلوا سيئة لا يلتفتون إليها بل تصبحون نادمين عليها .