( يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون )
ثم قال تعالى : ( ياأيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب ) .
وقد بينا أن السورة للإرشاد بعد إرشاد ، فبعد الإرشاد إلى ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن مع الله تعالى ومع النبي - صلى الله عليه وسلم - ومع من يخالفهما ويعصيهما وهو الفاسق ، بين ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن مع المؤمن ، [ ص: 113 ] وقد ذكرنا أن المؤمن إما أن يكون حاضرا وإما أن يكون غائبا ، فإن كان حاضرا فلا ينبغي أن يسخر منه ولا يلتفت إليه بما ينافي التعظيم ، وفي الآية إشارة إلى أمور ثلاثة مرتبة بعضها دون بعض ، وهي : ، فالسخرية هي أن لا ينظر الإنسان إلى أخيه بعين الإجلال ولا يلتفت إليه ويسقطه عن درجته ، وحينئذ لا يذكر ما فيه من المعايب ، وهذا كما قال بعض الناس : تراهم إذا ذكر عندهم عدوهم يقولون : هو دون أن يذكر ، وأقل من أن يلتفت إليه ، فقال : لا تحقروا إخوانكم ولا تستصغروهم . الثاني : هو اللمز وهو ذكر ما في الرجل من العيب في غيبته وهذا دون الأول ؛ لأن في الأول لم يلتفت إليه ولم يرض بأن يذكره أحد ، وإنما جعله مثل المسخرة الذي لا يغضب له ولا عليه . الثالث : هو النبز وهو دون الثاني ؛ لأن في هذه المرتبة يضيف إليه وصفا ثابتا فيه يوجب بغضه وحط منزلته ، وأما النبز فهو مجرد التسمية وإن لم يكن فيه ، وذلك لأن اللقب الحسن والاسم المستحسن إذا وضع لواحد وعلق عليه لا يكون معناه موجودا ، فإن من يسمى سعدا وسعيدا قد لا يكون كذلك ، وكذا من لقب إمام الدين وحسام الدين لا يفهم منه أنه كذلك ، وإنما هو علامة وزينة ، وكذلك النبز بالمروان ، ومروان الحمار لم يكن كذلك ، وإنما كان ذلك سمة ونسبة ، ولا يكون اللفظ مرادا إذا لم يرد به الوصف كما أن الأعلام كذلك ، فإنك إذا قلت لمن سمي بعبد الله : أنت عبد الله فلا تعبد غيره ، وتريد به وصفه لا تكون قد أتيت باسم علمه إشارة ، فقال : لا تتكبروا فتستحقروا إخوانكم وتستصغروهم بحيث لا تلتفتوا إليهم أصلا ، وإذا نزلتم عن هذا من النعم إليهم فلا تعيبو [ هم ] طالبين حط درجتهم والغض عن منزلتهم ، وإذا تركتم النظر في معايبهم ووصفهم بما يعيبهم ، فلا تسموهم بما يكرهونه ولا تهولوا ، هذا ليس بعيب يذكر فيه ، إنما هو اسم يتلفظ به من غير قصد إلى بيان صفة ، وذكر في الآية مسائل : السخرية واللمز والنبز
المسألة الأولى : قوله : ( لا يسخر قوم من قوم ) ؛ لأنه جمع قائم كصوم جمع صائم ، والقائم بالأمور هم الرجال فعلى هذا الأقوام الرجال لا النساء . القوم اسم يقع على جمع من الرجال ، ولا يقع على النساء ولا على الأطفال
فائدة : وهي أن عدم الالتفات والاستحقار إنما يصدر في أكثر الأمر من الرجال بالنسبة إلى الرجال ؛ لأن المرأة في نفسها ضعيفة ، فإذا لم يلتفت الرجال إليها لا يكون لها أمر ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : " النساء لحم على وضم إلا ما رددت عنه " وأما المرأة فلا يوجد منها استحقار الرجل ، وعدم التفاتها إليه لاضطرارها في دفع حوائجها [ إليه ] ، وأما الرجال بالنسبة إلى الرجال والنساء بالنسبة إلى النساء ، فيوجد فيهم هذا النوع من القبح ، وهذا أشهر .
المسألة الثانية : قال في الدرجة العالية التي هي نهاية المنكر : ( عسى أن يكونوا خيرا منهم ) كسرا له وبغضا لنكره ، وقال في المرتبة الثانية : ( ولا تلمزوا أنفسكم ) جعلهم كأنفسهم لما نزلوا درجة رفعهم الله درجة ، وفي الأول جعل المسخور منه خيرا ، وفي الثاني جعل المسخور منه مثلا ، وفي قوله : ( عسى أن يكونوا خيرا منهم ) حكمة وهي أنه وجد منهم النكر الذي هو مفض إلى الإهمال ، وجعل نفسه خيرا منهم ، كما فعل إبليس حيث لم يلتفت إلى آدم وقال : ( أنا خير منه ) [ ص : 76 ] فصار هو خيرا ، ويمكن أن يقال : المراد من قوله : ( أن يكونوا ) يصيروا فإن من استحقر إنسانا لفقره أو وحدته أو ضعفه لا يأمن أن يفتقر هو ويستغني الفقير ، ويضعف هو ويقوى الضعيف .
المسألة الثالثة : قال تعالى : ( قوم من قوم ) ولم يقل : نفس من نفس ؛ وذلك لأن هذا فيه إشارة إلى ، والمتكبر في أكثر الأمر يري جبروته على رءوس الأشهاد ، وإذا اجتمع في الخلوات مع من لا يلتفت [ ص: 114 ] إليه في الجامع يجعل نفسه متواضعا ، فذكرهم بلفظ القوم منعا لهم عما يفعلونه . منع التكبر
المسألة الرابعة : قوله تعالى : ( ولا تلمزوا أنفسكم ) فيه وجهان :
أحدهما : أن عيب الأخ عائد إلى الأخ ، فإذا عاب عائب نفسا فكأنما عاب نفسه .
وثانيهما : هو أنه إذا عابه وهو لا يخلو من عيب يحاربه المعيب فيعيبه فيكون هو بعيبه حاملا للغير على عيبه ، وكأنه هو العائب نفسه ، وعلى هذا يحمل قوله تعالى : ( ولا تقتلوا أنفسكم ) [ النساء : 29 ] أي أنكم إذا قتلتم نفسا قتلتم فتكونوا كأنكم قتلتم أنفسكم ، ويحتمل وجها آخر ثالثا وهو أن تقول : لا تعيبوا أنفسكم ، أي كل واحد منكم ، فإنكم إن فعلتم فقد عبتم أنفسكم ، أي كل واحد عاب كل واحد فصرتم عائبين من وجه ، معيبين من وجه ، وهذا الوجه ههنا ظاهر ولا كذلك في قوله تعالى : ( ولا تقتلوا أنفسكم ) .
المسألة الخامسة : إن قيل : قد ذكرتم أن هذا إرشاد للمؤمنين إلى ما يجب أن يفعله المؤمن عند حضوره بعد الإشارة إلى ما يفعله في غيبته ، لكن قوله تعالى : ( ولا تلمزوا ) قيل فيه : بأنه العيب خلف الإنسان ، ، نقول : ليس كذلك بل العكس أولى ، وذلك لأنا إذا نظرنا إلى قلب الحروف دللن على العكس ؛ لأن لمز قلبه لزم وهمز قلبه هزم ، والأول : يدل على القرب ، والثاني : على البعد ، فإن قيل : اللمز هو الطعن والعيب في الوجه كان أولى مع أن كل واحد قيل بمعنى واحد . والهمز : هو العيب في وجه الإنسان
المسألة السادسة : قال تعالى : ( ولا تنابزوا ) ولم يقل : لا تنبزوا ؛ وذلك لأن اللماز إذا لمز فالملموز قد لا يجد فيه في الحال عيبا يلمزه به ، وإنما يبحث ويتبعه ليطلع منه على عيب ، فيوجد اللمز من جانب ، وأما النبز فلا يعجز كل واحد عن الإتيان به ، فإن من نبز غيره بالحمار فهو ينبزه بالثور وغيره ، فالظاهر أن النبز يفضي في الحال إلى التنابز ولا كذلك اللمز .
وقوله تعالى : ( بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ) .
قيل فيه : إن المراد : بئس أن يقول للمسلم : يا يهودي بعد الإيمان ، أي بعدما آمن ، فبئس تسميته بالكافر . ويحتمل وجها أحسن من هذا ، وهو أن يقال : هذا تمام للزجر ، كأنه قال : يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم ، ولا تلمزوا ، ولا تنابزوا " فإنه إن فعل يفسق بعدما آمن ، والمؤمن يقبح منه أن يأتي بعد إيمانه بفسوق ، فيكون قوله تعالى : ( الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم ) [ الأنعام : 82 ] بئس الفسوق بعد الإيمان ، وبئس أن تسموا بالفاسق بسبب هذه الأفعال بعدما سميتموهم مؤمنين .
قال تعالى : ( ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون ) وهذا يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يقال : هذه الأشياء من الصغائر فمن يصر عليه يصير ظالما فاسقا ، وبالمرة الواحدة لا يتصف بالظلم والفسق ، فقال : ومن لم يترك ذلك ويجعله عادة فهو ظالم . وثانيهما : أن يقال : قوله تعالى : ( لا يسخر قوم ) ، ( ولا تلمزوا ( ، ( ولا تنابزوا ) منع لهم عن ذلك في المستقبل ، وقوله تعالى : ( ومن لم يتب ) أمرهم بالتوبة عما مضى وإظهار الندم عليها مبالغة في التحذير وتشديدا في الزجر ، والأصل في قوله تعالى : ( ولا تنابزوا ) لا تتنابزوا ، أسقطت إحدى التاءين ، كما أسقط في الاستفهام إحدى الهمزتين فقال : ( سواء عليهم أأنذرتهم ) [ البقرة : 6 ] والحذف ههنا أولى ؛ لأن تاء الخطاب وتاء الفاعل حرفان من جنس واحد في كلمة ، وهمزة الاستفهام كلمة برأسها ، وهمزة أنذرتهم أخرى ، واحتمال حرفين في كلمتين أسهل من احتماله في كلمة ؛ ولهذا وجب الإدغام في قولنا : مد ، [ ص: 115 ] ولم يجب في قولنا : امدد ، و [ في ] قولنا : مر ، [ دون ] قوله : امرر بنا .