( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم )
ثم قال تعالى : ( قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم ) .
لما قال تعالى : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) والأتقى لا يكون إلا بعد حصول التقوى ، هو الاتقاء من الشرك ، قالت الأعراب : لنا النسب الشريف ، وإنما يكون لنا الشرف ، قال الله تعالى : وأصل الإيمان ، فما آمنتم ، لأنه خبير يعلم ما في الصدور ( ليس الإيمان بالقول ، إنما هو بالقلب ولكن قولوا أسلمنا ) أي انقدنا واستسلمنا ، قيل : إن الآية نزلت في بني أسد ، أظهروا الإسلام في سنة مجدبة طالبين الصدقة ولم يكن قلبهم مطمئنا بالإيمان ، وقد بينا أن ذلك كالتاريخ للنزول لا للاختصاص بهم ؛ لأن كل من أظهر فعل المتقين وأراد أن يصير له ما للأتقياء من الإكرام لا يحصل له ذلك ؛ لأن التقوى من عمل القلب ، وقوله تعالى : ( قل لم تؤمنوا ) في تفسيره مسائل :
المسألة الأولى : قال تعالى : ( ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا ) [ النساء : 94 ] وقال ههنا : ( قل لم تؤمنوا ) مع أنهم ألقوا إليهم السلام ، نقول : إشارة إلى أن عمل القلب غير معلوم ، واجتناب الظن واجب ، وإنما يحكم بالظاهر - فلا يقال لمن يفعل فعلا : هو مرائي ، ولا لمن أسلم هو منافق ، ولكن الله خبير بما في الصدور ، [ ص: 121 ] إذا قال : فلان ليس بمؤمن حصل الجزم ، وقوله تعالى : ( قل لم تؤمنوا ) فهو الذي جوز لنا ذلك القول ، وكان معجزة للنبي - صلى الله عليه وسلم - حيث أطلعه الله على الغيب وضمير قلوبهم ، فقال لنا : أنتم لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا ؛ لعدم علمكم بما في قلبه .
المسألة الثانية : " لم " و " لما " حرفا نفي ، و " ما " و " إن " و " لا " كذلك من حروف النفي ، و نقول : " لم " و " لما " يفعلان بالفعل ما لا يفعل به غيرهما ، فإنهما يغيران معناه من الاستقبال إلى المضي ، تقول : لم يؤمن أمس وآمن اليوم ، ولا تقول : لا يؤمن أمس ، فلما فعلا بالفعل ما لم يفعل به غيرهما جزم بهما ، فإن قيل : مع هذا لم جزم بهما غاية ما في الباب أن الفرق حصل ، ولكن ما الدليل على وجوب الجزم بهما ؟ نقول : لأن الجزم والقطع يحصل في الأفعال الماضية ، فإن من قال : قام ، حصل القطع بقيامه ، ولا يجوز أن يكون ما قام . والأفعال المستقبلة إما متوقعة الحصول وإما ممكنة غير متوقعة ، ولا يحصل القطع والجزم فيه ، فإذا كان " لم " و " لما " يقلبان اللفظ من الاستقبال إلى المضي كانا يفيدان الجزم والقطع في المعنى ، فجعل لهما تناسبا بالمعنى وهو الجزم لفظا ، وعلى هذا نقول : السبب في الجزم ما ذكرنا ، وهذا في الأمر يجزم ، كأنه جزم على المأمور أنه يفعله ولا يتركه ، فأي فائدة في أن اللفظ يجزم مع أن الفعل فيه لا بد من وقوعه وأن في الشرط تغيرا ، وذلك لأن " إن " تغير معنى الفعل من المضي إلى الاستقبال إن لم تغيره من الاستقبال إلى المضي ، تقول : إن جئتني جئتك ، وإن أكرمتني أكرمتك ، فلما كان " إن " مثل " لم " في كونه حرفا ، وفي لزوم الدخول على الأفعال ، وتغييره معنى الفعل - صار جازما لشبه لفظي ، أما الجزاء فجزم لما ذكرنا من المعنى ، فإن الجزاء يجزم بوقوعه عند وجود الشرط ، فالجزم إذا إما لمعنى أو لشبه لفظي ، كما أن الجزاء كذلك في الإضافة وفي الجر بحرف . " لم " و " لما " يجزمان ، وغيرهما من حروف النفي لا يجزم ، فما الفرق بينهما ؟
المسألة الثالثة : قوله تعالى : ( ولكن قولوا ) يقتضي قولا سابقا مخالفا لما بعده ، كقولنا : " لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا " وفي ترك التصريح به إرشاد وتأديب ، كأنه تعالى لم يجز النهي عن قولهم : ( آمنا ) فلم يقل : لا تقولوا آمنا ، وأرشدهم إلى الامتناع عن الكذب ، فقال : ( لم تؤمنوا ) فإن كنتم تقولون شيئا فقولوا أمرا عاما لا يلزم منه كذبكم وهو كقولهم : ( أسلمنا ) فإن الإسلام بمعنى الانقياد حصل .
المسألة الرابعة : أهل السنة ، فكيف يفهم ذلك مع هذا ؟ نقول : بين العام والخاص فرق ، فالإيمان لا يحصل إلا بالقلب وقد يحصل باللسان ، والإسلام أعم لكن العام في صورة الخاص متحد مع الخاص ، ولا يكون أمرا آخر غيره ، مثاله الحيوان أعم من الإنسان ، لكن الحيوان في صورة الإنسان ليس أمرا ينفك عن الإنسان ، ولا يجوز أن يكون ذلك الحيوان حيوانا ولا يكون إنسانا ، فالعام والخاص مختلفان في العموم متحدان في الوجود ، فكذلك المؤمن والمسلم ، وسنبين ذلك في تفسير قوله تعالى : ( المؤمن والمسلم واحد عند فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين ) [ الذاريات : 35 ] إن شاء الله تعالى .
المسألة الخامسة : قوله تعالى : ( ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) هل فيه معنى قوله تعالى : ( قل لم تؤمنوا ) ؟ نقول : نعم وبيانه من وجوه ، الأول : هو أنهم لما قالوا : آمنا وقيل لهم : ( لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ) قالوا : إذا أسلمنا فقد آمنا ، قيل : لا ، فإن ، وإذا كان ذلك [ ص: 122 ] عمل القلب ولم يدخل في قلوبكم الإيمان لم تؤمنوا . الثاني : لما قالوا : آمنا وقيل لهم : لم تؤمنوا ، قالوا جدلا : قد آمنا عن صدق نية ، مؤكدين لما أخبروا ، فقال : ( الإيمان من عمل القلب لا غيره ، والإسلام قد يكون عمل اللسان ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) لأن " لما يفعل " يقال في مقابلة " قد فعل " ، ويحتمل أن يقال بأن الآية فيها إشارة إلى حال المؤلفة إذا أسلموا ، ويكون إيمانهم بعد ضعيفا قال لهم : ( لم تؤمنوا ) لأن الإيمان إيقان ، وذلك بعد لم يدخل في قلوبكم ، وسيدخل باطلاعكم على محاسن الإسلام ( وإن تطيعوا الله ورسوله ) يكمل لكم الأجر ، والذي يدل على هذا هو أن لما فيها معنى التوقع والانتظار ، والإيمان إما أن يكون بفعل المؤمن واكتسابه ونظره في الدلائل ، وإما أن يكون إلهاما يقع في قلب المؤمن ، فقوله : ( قل لم تؤمنوا ) أي ما فعلتم ذلك ، وقوله تعالى : ( ولما يدخل الإيمان في قلوبكم ) أي ولا دخل الإيمان في قلبكم إلهاما من غير فعلكم ، فلا إيمان لكم حينئذ . ثم إنه تعالى عند فعلهم قال : ( لم تؤمنوا ) بحرف ليس فيه معنى الانتظار ؛ لقصور نظرهم وفتور فكرهم ، وعند فعل الإيمان قال : ( لما يدخل ) بحرف فيه معنى التوقع ؛ لظهور قوة الإيمان ، كأنه يكاد يغشى القلوب بأسرها .
ثم إنه تعالى قال : ( وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم ) أي لا ينقصكم ، والمراد أنكم إذا أتيتم بما يليق بضعفكم من الحسنة فهو يؤتيكم ما يليق به من الجزاء ؛ وهذا لأن من حمل إلى ملك فاكهة طيبة يكون ثمنها في السوق درهما ، وأعطاه الملك درهما أو دينارا ينسب الملك إلى قلة العطاء بل البخل ، فليس معناه أنه يعطي مثل ذلك من غير نقص ، بل المعنى يعطي ما تتوقعون بأعمالكم من غير نقص . وفيه ، لأن من تحريض على الإيمان الصادق يضيع عمله ولا يعطى عليه أجرا ، فقال : ( أتى بفعل من غير صدق نية وإن تطيعوا ) وتصدقوا لا ينقص عليكم ، فلا تضيعوا أعمالكم بعدم الإخلاص ، وفيه أيضا تسلية لقلوب من تأخر إيمانه ، كأنه يقول : غيري سبقني وآمن حين كان النبي وحيدا ، وآواه حين كان ضعيفا ، ونحن آمنا عندما عجزنا عن مقاومته وغلبنا بقوته ، فلا يكون لإيماننا وقع ولا لنا عليه أجر ، فقال تعالى : إن أجركم لا ينقص وما تتوقعون تعطون ، غاية ما في الباب أن التقدم يزيد في أجورهم ، وماذا عليكم إذا أرضاكم الله أن يعطي غيركم من خزائن رحمته رحمة واسعة ، وما حالكم في ذلك إلا حال ملك أعطى واحدا شيئا وقال لغيره : ماذا تتمنى ؟ فتمنى عليه بلدة واسعة وأموالا ، فأعطاه ووفاه ، ثم زاد ذلك الأول أشياء أخرى من خزائنه ، فإن تأذى من ذلك يكون بخلا وحسدا ، وذلك في الآخرة لا يكون ، وفي الدنيا هو من صفة الأراذل ، وقوله تعالى : ( إن الله غفور رحيم ) أي يغفر لكم ما قد سلف ويرحمكم بما أتيتم به .