[ ص: 175 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=18وبالأسحار هم يستغفرون )
ثم قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=18وبالأسحار هم يستغفرون ) إشارة إلى أنهم كانوا يتهجدون ويجتهدون يريدون أن يكون عملهم أكثر من ذلك وأخلص منه
nindex.php?page=treesubj&link=20019_20011_30415_30483ويستغفرون من التقصير وهذا سيرة الكريم يأتي بأبلغ وجوه الكرم ويستقله ويعتذر من التقصير ، واللئيم يأتي بالقليل ويستكثره ويمن به .
وفيه وجه آخر ألطف منه ، وهو أنه تعالى لما بين أنهم يهجعون قليلا ، والهجوع مقتضى الطبع ، قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=18يستغفرون ) أي من ذلك القدر من النوم القليل ، وفيه لطيفة أخرى تنبيها في جواب سؤال ، وهو أنه تعالى مدحهم بقلة الهجوع ، ولم يمدحهم بكثرة السهر ، وما قال : كانوا كثيرا من الليل ما يسهرون ، فما الحكمة فيه ، مع أن السهر هو الكلفة والاجتهاد لا الهجوع ؟ نقول : إشارة إلى أن نومهم عبادة ، حيث مدحهم الله تعالى بكونهم هاجعين قليلا ، وذلك الهجوع أورثهم الاشتغال بعبادة أخرى ، وهو
nindex.php?page=treesubj&link=20025_30415_30483الاستغفار في وجوه الأسحار ، ومنعهم من الإعجاب بأنفسهم والاستكبار . وفيه مباحث :
البحث الأول : في الباء فإنها استعملت للظرف ههنا ، وهي ليست للظرف ، نقول : قال بعض النحاة : إن
nindex.php?page=treesubj&link=34077_28908حروف الجر ينوب بعضها مناب بعض ، يقال في الظرف خرجت لعشر بقين وبالليل وفي شهر رمضان ، فيستعمل اللام والباء وفي ، وكذلك في المكان ، تقول : أقمت بالمدينة كذا وفيها ، ورأيته ببلدة كذا وفيها ، فإن قيل ما التحقيق فيه ؟ نقول : الحروف لها معان مختلفة ، كما أن الأسماء والأفعال كذلك ، غير أن الحروف غير مستقلة بإفادة المعنى ، والاسم والفعل مستقلان ، لكن بين بعض الحروف وبعضها تناف وتباعد ، كما في الأسماء والأفعال ، فإن البيت والمسكن مختلفان متفاوتان ، وكذلك سكن ومكث ، ولا كذلك كل اسمين يفرض أو كل فعلين يوجد ، إذا عرفت هذا فنقول : بين الباء واللام وفي مشاركة ، أما الباء فإنها للإلصاق ، والمتمكن في مكان ملتصق به متصل ، وكذلك الفعل بالنسبة إلى الزمان ، فإذا قال : سار بالنهار معناه ذهب ذهابا متصلا بالنهار ، وكذا قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=18وبالأسحار هم يستغفرون ) أي استغفارا متصلا بالأسحار مقترنا بها ; لأن الكائن فيها مقترنا بها ، فإن قيل : فهل يكون بينهما في المعنى تفاوت ؟ نقول : نعم ، وذلك لأن من قال : قمت بالليل واستغفر بالأسحار أخبر عن الأمرين ، وذلك أدل على وجود الفعل مع أول جزء من أجزاء الوقت من قوله : قمت في الليل ; لأنه يستدعي احتواش الزمان بالفعل وكذلك قول القائل : أقمت ببلد كذا ، لا يفيد أنه كان محاطا بالبلد ، وقوله : أقمت فيها يدل على إحاطتها به ، فإذن قول القائل : أقمت بالبلدة ودعوت بالأسحار ، أعم من قوله : قمت فيه ; لأن القائم فيه قائم به ، والقائم به ليس قائما فيه من كل بد ، إذا علمت هذا فقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=18وبالأسحار هم يستغفرون ) إشارة إلى أنهم لا يخلون وقتا عن العبادة ، فإنهم بالليل لا يهجعون ، ومع أول جزء من السحر يستغفرون ، فيكون فيه بيان كونهم مستغفرين من غير أن يسبق منهم ذنب ; لأنهم وقت الانتباه في الأسحار لم يخلو الوقت للذنب ، فإن قيل : زدنا بيانا فإن من الأزمان أزمانا لا تجعل ظروفا بالباء ، فلا يقال خرجت بيوم الجمعة ، ويقال في ، نقول: إن كل فعل جار في زمان فهو متصل به ، فالخروج يوم الجمعة متصل مقترن بذلك الزمان ، ولم يستعمل خرجت بيوم الجمعة ، نقول الفارق بينهما الإطلاق والتقييد ، بدليل أنك إن قلت : خرجت بنهارنا وبليلة الجمعة لم يحسن ، ولو قلت : خرجت بيوم
[ ص: 176 ] سعد ، وخرج هو بيوم نحس حسن ، فالنهار والليل لما لم يكن فيهما خصوص وتقييد جاز استعمال الباء فيهما ، فإذا قيدتهما وخصصتهما زال ذلك الجواز ، ويوم الجمعة لما كان فيه خصوص لم يجز استعمال الباء ، وحيث زال الخصوص بالتنكير ، وقلت خرجت بيوم كذا عاد الجواز ، والسر فيه أن مثل يوم الجمعة ، وهذه الساعة ، وتلك الليلة وجد فيها أمر غير الزمان وهو خصوصيات ، وخصوصية الشيء في الحقيقة أمور كثيرة غير محصورة عند العاقل على وجه التفصيل لكنها محصورة على الإجمال ، مثاله إذا قلت هذا الرجل فالعام فيه هو الرجل ، ثم إنك لو قلت الرجل الطويل ، ما كان يصير مخصصا ، لكنه يقرب من الخصوص ، ويخرج من القصار ، فإن قلت : العالم لم يصر مخصصا لكنه يخرج عن الجهال ، فإذا قلت : الزاهد فكذلك ، فإذا قلت : ابن عمرو خرج عن أبناء زيد وبكر وخالد وغيرهم ، فإذا قلت هذا يتناول تلك المخصصات التي بأجمعها لا تجتمع إلا في ذلك ، فإذن الزمان المتعين فيه أمور غير الزمان ، والفعل حدث مقترن بزمان لا ناشئ عن الزمان ، وأما " في " فصحيح ; لأن ما حصل في العام فهو في الخاص ; لأن العام أمر داخل في الخاص ، وأما " في " فيدخل في الذي فيه الشيء ، فصح أن يقال : في يوم الجمعة ، وفي هذه الساعة ، وأما بحث اللام فنؤخره إلى موضعه ، وقد تقدم بعضه في تفسير قوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=38والشمس تجري لمستقر لها ) [ يس : 38 ] وقوله : ( هم ) غير خال عن فائدة ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : فائدته انحصار المستغفرين ، أي : لكمالهم في الاستغفار ، كأن غيرهم ليس بمستغفر ، فهم المستغفرون لا غير ، يقال فلان هو العالم لكماله كأنه تفرد به وهو جيد ، ولكن فيه فائدة أخرى ، وهي أن الله تعالى لما عطف (
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=18وبالأسحار هم يستغفرون ) على قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=17كانوا قليلا من الليل ما يهجعون ) فلو لم يؤكد معنى الإثبات بكلمة ( هم ) لصلح أن يكون معناه : وبالأسحار قليلا ما يستغفرون ، تقول فلان قليلا ما يؤذي وإلى الناس يحسن ، قد يفهم أنه قليل الإيذاء قليل الإحسان ، فإذا قلت قليلا ما يؤذي وهو يحسن زال ذلك الفهم وظهر فيه معنى قوله : قليل الإيذاء كثير الإحسان ، والاستغفار يحتمل وجوها .
أحدها : طلب المغفرة بالذكر بقولهم (
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=10ربنا اغفر لنا ) [الحشر : 10].
الثاني : طلب المغفرة بالفعل ، أي بالأسحار يأتون بفعل آخر طلبا للغفران ، وهو الصلاة أو غيرها من العبادات .
الثالث : وهو أغربها الاستغفار من باب استحصد الزرع إذا جاء أوان حصاده ، فكأنهم بالأسحار يستحقون المغفرة ويأتيهم أوان المغفرة ، فإن قيل : فالله لم يؤخر مغفرتهم إلى السحر ؟ نقول :
nindex.php?page=treesubj&link=20025_29746وقت السحر تجتمع ملائكة الليل والنهار ، وهو الوقت المشهود ، فيقول الله على ملأ منهم : إني غفرت لعبدي ، والأول: أظهر ، والثاني عند المفسرين: أشهر .
[ ص: 175 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=18وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ )
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=18وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَهَجَّدُونَ وَيَجْتَهِدُونَ يُرِيدُونَ أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَأَخْلَصَ مِنْهُ
nindex.php?page=treesubj&link=20019_20011_30415_30483وَيَسْتَغْفِرُونَ مِنَ التَّقْصِيرِ وَهَذَا سِيرَةُ الْكَرِيمِ يَأْتِي بِأَبْلَغِ وُجُوهِ الْكَرَمِ وَيَسْتَقِلُّهُ وَيَعْتَذِرُ مِنَ التَّقْصِيرِ ، وَاللَّئِيمُ يَأْتِي بِالْقَلِيلِ وَيَسْتَكْثِرُهُ وَيَمُنُّ بِهِ .
وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ أَلْطَفُ مِنْهُ ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُمْ يَهْجَعُونَ قَلِيلًا ، وَالْهُجُوعُ مُقْتَضَى الطَّبْعِ ، قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=18يَسْتَغْفِرُونَ ) أَيْ مِنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنَ النَّوْمِ الْقَلِيلِ ، وَفِيهِ لَطِيفَةٌ أُخْرَى تَنْبِيهًا فِي جَوَابِ سُؤَالٍ ، وَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى مَدَحَهُمْ بِقِلَّةِ الْهُجُوعِ ، وَلَمْ يَمْدَحْهُمْ بِكَثْرَةِ السَّهَرِ ، وَمَا قَالَ : كَانُوا كَثِيرًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَسْهَرُونَ ، فَمَا الْحِكْمَةُ فِيهِ ، مَعَ أَنَّ السَّهَرَ هُوَ الْكُلْفَةُ وَالِاجْتِهَادُ لَا الْهُجُوعُ ؟ نَقُولُ : إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ نَوْمَهُمْ عِبَادَةٌ ، حَيْثُ مَدَحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِكَوْنِهِمْ هَاجِعِينَ قَلِيلًا ، وَذَلِكَ الْهُجُوعُ أَوْرَثَهَمُ الِاشْتِغَالَ بِعِبَادَةٍ أُخْرَى ، وَهُوَ
nindex.php?page=treesubj&link=20025_30415_30483الِاسْتِغْفَارُ فِي وُجُوهِ الْأَسْحَارِ ، وَمَنَعَهُمْ مِنَ الْإِعْجَابِ بِأَنْفُسِهِمْ وَالِاسْتِكْبَارِ . وَفِيهِ مَبَاحِثُ :
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ : فِي الْبَاءِ فَإِنَّهَا اسْتُعْمِلَتْ لِلظَّرْفِ هَهُنَا ، وَهِيَ لَيْسَتْ لِلظَّرْفِ ، نَقُولُ : قَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ : إِنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=34077_28908حُرُوفَ الْجَرِّ يَنُوبُ بَعْضُهَا مَنَابَ بَعْضٍ ، يُقَالُ فِي الظَّرْفِ خَرَجْتُ لِعَشْرٍ بَقِينَ وَبِاللَّيْلِ وَفِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، فَيُسْتَعْمَلُ اللَّامُ وَالْبَاءُ وَفِي ، وَكَذَلِكَ فِي الْمَكَانِ ، تَقُولُ : أَقَمْتُ بِالْمَدِينَةِ كَذَا وَفِيهَا ، وَرَأَيْتُهُ بِبَلْدَةِ كَذَا وَفِيهَا ، فَإِنْ قِيلَ مَا التَّحْقِيقُ فِيهِ ؟ نَقُولُ : الْحُرُوفُ لَهَا مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٌ ، كَمَا أَنَّ الْأَسْمَاءَ وَالْأَفْعَالَ كَذَلِكَ ، غَيْرَ أَنَّ الْحُرُوفَ غَيْرُ مُسْتَقِلَّةٍ بِإِفَادَةِ الْمَعْنَى ، وَالِاسْمُ وَالْفِعْلُ مُسْتَقِلَّانِ ، لَكِنْ بَيْنَ بَعْضِ الْحُرُوفِ وَبَعْضِهَا تَنَافٍ وَتَبَاعُدٌ ، كَمَا فِي الْأَسْمَاءِ وَالْأَفْعَالِ ، فَإِنَّ الْبَيْتَ وَالْمَسْكَنَ مُخْتَلِفَانِ مُتَفَاوِتَانِ ، وَكَذَلِكَ سَكَنَ وَمَكَثَ ، وَلَا كَذَلِكَ كُلُّ اسْمَيْنِ يُفْرَضُ أَوْ كُلُّ فِعْلَيْنِ يُوجَدُ ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ : بَيْنَ الْبَاءِ وَاللَّامِ وَفِي مُشَارَكَةٌ ، أَمَّا الْبَاءُ فَإِنَّهَا لِلْإِلْصَاقِ ، وَالْمُتَمَكِّنُ فِي مَكَانٍ مُلْتَصِقٌ بِهِ مُتَّصِلٌ ، وَكَذَلِكَ الْفِعْلُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الزَّمَانِ ، فَإِذَا قَالَ : سَارَ بِالنَّهَارِ مَعْنَاهُ ذَهَبَ ذَهَابًا مُتَّصِلًا بِالنَّهَارِ ، وَكَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=18وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) أَيِ اسْتِغْفَارًا مُتَّصِلًا بِالْأَسْحَارِ مُقْتَرِنًا بِهَا ; لِأَنَّ الْكَائِنَ فِيهَا مُقْتَرِنًا بِهَا ، فَإِنْ قِيلَ : فَهَلْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى تَفَاوُتٌ ؟ نَقُولُ : نَعَمْ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ قَالَ : قُمْتُ بِاللَّيْلِ وَاسْتَغْفِرُ بِالْأَسْحَارِ أَخْبَرَ عَنِ الْأَمْرَيْنِ ، وَذَلِكَ أَدَلُّ عَلَى وُجُودِ الْفِعْلِ مَعَ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْوَقْتِ مِنْ قَوْلِهِ : قُمْتُ فِي اللَّيْلِ ; لِأَنَّهُ يَسْتَدْعِي احْتِوَاشَ الزَّمَانِ بِالْفِعْلِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ : أَقَمْتُ بِبَلَدِ كَذَا ، لَا يُفِيدُ أَنَّهُ كَانَ مُحَاطًا بِالْبَلَدِ ، وَقَوْلُهُ : أَقَمْتُ فِيهَا يَدُلُّ عَلَى إِحَاطَتِهَا بِهِ ، فَإِذَنْ قَوْلُ الْقَائِلِ : أَقَمْتُ بِالْبَلْدَةِ وَدَعَوْتُ بِالْأَسْحَارِ ، أَعَمُّ مِنْ قَوْلِهِ : قُمْتُ فِيهِ ; لِأَنَّ الْقَائِمَ فِيهِ قَائِمٌ بِهِ ، وَالْقَائِمَ بِهِ لَيْسَ قَائِمًا فِيهِ مِنْ كُلِّ بُدٍّ ، إِذَا عَلِمْتَ هَذَا فَقَوْلُهُ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=18وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُمْ لَا يَخْلُونَ وَقْتًا عَنِ الْعِبَادَةِ ، فَإِنَّهُمْ بِاللَّيْلِ لَا يَهْجَعُونَ ، وَمَعَ أَوَّلِ جُزْءٍ مِنَ السَّحَرِ يَسْتَغْفِرُونَ ، فَيَكُونُ فِيهِ بَيَانُ كَوْنِهِمْ مُسْتَغْفِرِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْبِقَ مِنْهُمْ ذَنْبٌ ; لِأَنَّهُمْ وَقْتَ الِانْتِبَاهِ فِي الْأَسْحَارِ لَمْ يَخْلُو الْوَقْتُ لِلذَّنْبِ ، فَإِنْ قِيلَ : زِدْنَا بَيَانًا فَإِنَّ مِنَ الْأَزْمَانِ أَزْمَانًا لَا تُجْعَلُ ظُرُوفًا بِالْبَاءِ ، فَلَا يُقَالُ خَرَجْتُ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ ، وَيُقَالُ فِي ، نَقُولُ: إِنَّ كُلَّ فِعْلٍ جَارٍ فِي زَمَانٍ فَهُوَ مُتَّصِلٌ بِهِ ، فَالْخُرُوجُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مُتَّصِلٌ مُقْتَرِنٌ بِذَلِكَ الزَّمَانِ ، وَلَمْ يُسْتَعْمَلْ خَرَجْتُ بِيَوْمِ الْجُمُعَةِ ، نَقُولُ الْفَارِقُ بَيْنَهُمَا الْإِطْلَاقُ وَالتَّقْيِيدُ ، بِدَلِيلِ أَنَّكَ إِنْ قُلْتَ : خَرَجْتُ بِنَهَارِنَا وَبِلَيْلَةِ الْجُمُعَةِ لَمْ يَحْسُنْ ، وَلَوْ قُلْتَ : خَرَجْتُ بِيَوْمِ
[ ص: 176 ] سَعْدٍ ، وَخَرَجَ هُوَ بِيَوْمِ نَحْسٍ حَسُنَ ، فَالنَّهَارُ وَاللَّيْلُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِيهِمَا خُصُوصٌ وَتَقْيِيدٌ جَازَ اسْتِعْمَالُ الْبَاءِ فِيهِمَا ، فَإِذَا قَيَّدْتَهُمَا وَخَصَّصْتَهُمَا زَالَ ذَلِكَ الْجَوَازُ ، وَيَوْمُ الْجُمُعَةَ لَمَّا كَانَ فِيهِ خُصُوصٌ لَمْ يَجُزِ اسْتِعْمَالُ الْبَاءِ ، وَحَيْثُ زَالَ الْخُصُوصُ بِالتَّنْكِيرِ ، وَقُلْتَ خَرَجْتُ بِيَوْمِ كَذَا عَادَ الْجَوَازُ ، وَالسِّرُّ فِيهِ أَنَّ مِثْلَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ ، وَهَذِهِ السَّاعَةِ ، وَتِلْكَ اللَّيْلَةِ وُجِدَ فِيهَا أَمْرٌ غَيْرُ الزَّمَانِ وَهُوَ خُصُوصِيَّاتٌ ، وَخُصُوصِيَّةُ الشَّيْءِ فِي الْحَقِيقَةِ أُمُورٌ كَثِيرَةٌ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ عِنْدَ الْعَاقِلِ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ لَكِنَّهَا مَحْصُورَةٌ عَلَى الْإِجْمَالِ ، مِثَالُهُ إِذَا قُلْتَ هَذَا الرَّجُلَ فَالْعَامُّ فِيهِ هُوَ الرَّجُلُ ، ثُمَّ إِنَّكَ لَوْ قُلْتَ الرَّجُلُ الطَّوِيلُ ، مَا كَانَ يَصِيرُ مُخَصَّصًا ، لَكِنَّهُ يَقْرُبُ مِنَ الْخُصُوصِ ، وَيَخْرُجُ مِنَ الْقِصَارِ ، فَإِنْ قُلْتَ : الْعَالِمُ لَمْ يَصِرْ مُخَصَّصًا لَكِنَّهُ يَخْرُجُ عَنِ الْجُهَّالِ ، فَإِذَا قُلْتَ : الزَّاهِدُ فَكَذَلِكَ ، فَإِذَا قُلْتَ : ابْنُ عَمْرٍو خَرَجَ عَنْ أَبْنَاءِ زَيْدٍ وَبَكْرٍ وَخَالِدٍ وَغَيْرِهِمْ ، فَإِذَا قُلْتَ هَذَا يَتَنَاوَلُ تِلْكَ الْمُخَصَّصَاتِ الَّتِي بِأَجْمَعِهَا لَا تَجْتَمِعُ إِلَّا فِي ذَلِكَ ، فَإِذَنِ الزَّمَانُ الْمُتَعَيِّنُ فِيهِ أُمُورٌ غَيْرُ الزَّمَانِ ، وَالْفِعْلُ حَدَثٌ مُقْتَرِنٌ بِزَمَانٍ لَا نَاشِئٌ عَنِ الزَّمَانِ ، وَأَمَّا " فِي " فَصَحِيحٌ ; لِأَنَّ مَا حَصَلَ فِي الْعَامِّ فَهُوَ فِي الْخَاصِّ ; لِأَنَّ الْعَامَّ أَمْرٌ دَاخِلٌ فِي الْخَاصِّ ، وَأَمَّا " فِي " فَيَدْخُلُ فِي الَّذِي فِيهِ الشَّيْءُ ، فَصَحَّ أَنْ يُقَالَ : فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ، وَفِي هَذِهِ السَّاعَةِ ، وَأَمَّا بَحْثُ اللَّامِ فَنُؤَخِّرُهُ إِلَى مَوْضِعِهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَعْضُهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=38وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ) [ يس : 38 ] وَقَوْلُهُ : ( هُمْ ) غَيْرُ خَالٍ عَنْ فَائِدَةٍ ، قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ : فَائِدَتُهُ انْحِصَارُ الْمُسْتَغْفِرِينَ ، أَيْ : لِكَمَالِهِمْ فِي الِاسْتِغْفَارِ ، كَأَنَّ غَيْرَهُمْ لَيْسَ بِمُسْتَغْفِرٍ ، فَهُمُ الْمُسْتَغْفِرُونَ لَا غَيْرُ ، يُقَالُ فُلَانٌ هُوَ الْعَالِمُ لِكَمَالِهِ كَأَنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ وَهُوَ جَيِّدٌ ، وَلَكِنَّ فِيهِ فَائِدَةً أُخْرَى ، وَهِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا عَطَفَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=18وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ) عَلَى قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=51&ayano=17كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ) فَلَوْ لَمْ يُؤَكِّدْ مَعْنَى الْإِثْبَاتِ بِكَلِمَةِ ( هُمْ ) لَصَلَحَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ : وَبِالْأَسْحَارِ قَلِيلًا مَا يَسْتَغْفِرُونَ ، تَقُولُ فُلَانٌ قَلِيلًا مَا يُؤْذِي وَإِلَى النَّاسِ يُحْسِنُ ، قَدْ يُفْهَمُ أَنَّهُ قَلِيلُ الْإِيذَاءِ قَلِيلُ الْإِحْسَانِ ، فَإِذَا قُلْتَ قَلِيلًا مَا يُؤْذِي وَهُوَ يُحْسِنُ زَالَ ذَلِكَ الْفَهْمُ وَظَهَرَ فِيهِ مَعْنَى قَوْلِهِ : قَلِيلُ الْإِيذَاءِ كَثِيرُ الْإِحْسَانِ ، وَالِاسْتِغْفَارُ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا .
أَحَدُهَا : طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ بِالذِّكْرِ بِقَوْلِهِمْ (
nindex.php?page=tafseer&surano=59&ayano=10رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ) [الْحَشْرِ : 10].
الثَّانِي : طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ بِالْفِعْلِ ، أَيْ بِالْأَسْحَارِ يَأْتُونَ بِفِعْلٍ آخَرَ طَلَبًا لِلْغُفْرَانِ ، وَهُوَ الصَّلَاةُ أَوْ غَيْرَهَا مِنَ الْعِبَادَاتِ .
الثَّالِثُ : وَهُوَ أَغْرَبُهَا الِاسْتِغْفَارُ مِنْ بَابِ اسْتَحْصَدَ الزَّرْعُ إِذَا جَاءَ أَوَانُ حَصَادِهِ ، فَكَأَنَّهُمْ بِالْأَسْحَارِ يَسْتَحِقُّونَ الْمَغْفِرَةَ وَيَأْتِيهِمْ أَوَانُ الْمَغْفِرَةِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَاللَّهُ لَمْ يُؤَخِّرْ مُغْفِرَتَهُمْ إِلَى السَّحَرِ ؟ نَقُولُ :
nindex.php?page=treesubj&link=20025_29746وَقْتُ السَّحَرِ تَجْتَمِعُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ ، وَهُوَ الْوَقْتُ الْمَشْهُودُ ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَلَى مَلَأٍ مِنْهُمْ : إِنِّي غَفَرْتُ لِعَبْدِي ، وَالْأَوَّلُ: أَظْهَرُ ، وَالثَّانِي عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ: أَشْهَرُ .