( الذي خلق الموت والحياة    ) 
قوله تعالى : ( الذي خلق الموت والحياة    ) فيه مسائل : 
لمسألة الأولى : قالوا : الحياة هي الصفة التي يكون الموصوف بها بحيث يصح أن يعلم ويقدر ، واختلفوا في الموت ، فقال قوم : إنه عبارة عن عدم هذه الصفة ، وقال أصحابنا : إنه صفة وجودية مضادة للحياة ، واحتجوا على قولهم بأنه تعالى قال : ( الذي خلق الموت    ) والعدم لا يكون مخلوقا ، هذا هو التحقيق ، وروى الكلبي  بإسناده عن  ابن عباس  أن الله تعالى خلق الموت في صورة كبش أملح لا يمر بشيء ، ولا يجد رائحته شيء إلا مات ، وخلق الحياة في صورة فارس يلقاه فوق الحمار ودون البغل ، لا تمر بشيء ولا يجد ريحتها شيء إلا حيي   . واعلم أن هذا لا بد وأن يكون مقولا على سبيل التمثيل والتصوير ، وإلا فالتحقيق هو الذي ذكرناه . 
المسألة الثانية : إنما قدم ذكر الموت على ذكر الحياة مع أن الحياة مقدمة على الموت لوجوه : 
أحدها : قال مقاتل    : يعني بالموت نطفة وعلقة ومضغة والحياة نفخ الروح . 
وثانيها : روى عطاء  عن  ابن عباس  قال : يريد   [ ص: 49 ] الموت في الدنيا ، والحياة في الآخرة دار الحيوان . 
وثالثها : أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أن مناديا ينادي يوم القيامة : يا أهل الجنة ، فيعلمون أنه من قبل الله عز وجل فيقولون : لبيك ربنا وسعديك ، فيقول : هل وجدتم ما وعد ربكم حقا ؟ قالوا : نعم ، ثم يؤتى بالموت في صورة كبش أملح ويذبح  ، ثم ينادى : يا أهل الجنة خلود بلا موت ، ويا أهل النار خلود بلا موت ، فيزداد أهل الجنة فرحا إلى فرح ، ويزداد أهل النار حزنا إلى حزن   " . 
واعلم أنا بينا أن الموت عرض من الأعراض كالسكون والحركة ، فلا يجوز أن يصير كبشا بل المراد منه التمثيل ليعلم أن في ذلك اليوم قد انقضى أمر الموت ، فظهر بما ذكرناه أن أيام الموت هي أيام الدنيا وهي منقضية ، وأما أيام الآخرة فهي أيام الحياة وهي متأخرة ؛ فلما كانت أيام الموت متقدمة على أيام الحياة لا جرم قدم الله ذكر الموت على ذكر الحياة . 
ورابعها : إنما قدم الموت على الحياة ؛ لأن أقوى الناس داعيا إلى العمل من نصب موته بين عينيه  ، فقدم لأنه فيما يرجع إلى الغرض له أهم . 
المسألة الثالثة : اعلم أن الحياة هي الأصل في النعم ولولاها لم يتنعم أحد في الدنيا وهي الأصل أيضا في نعم الآخرة ولولاها لم يثبت الثواب الدائم ، والموت أيضا نعمة على ما شرحنا الحال فيه في مواضع من هذا الكتاب ، وكيف لا وهو الفاصل بين حال التكليف وحال المجازاة وهو نعمة من هذا الوجه ، قال عليه الصلاة والسلام : " أكثروا من ذكر هاذم اللذات   " وقال لقوم : " لو أكثرتم ذكر هاذم اللذات لشغلكم عما أرى   " وسأل عليه الصلاة والسلام عن رجل فأثنوا عليه ، فقال : "كيف ذكره الموت ؟ قالوا : قليل ، قال : فليس كما تقولون   " . 
				
						
						
