وقوله تعالى : ( يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا ) .
واعلم أن ، ولذلك قال تعالى : ( الخلق مجبولون على محبة الخيرات العاجلة وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب ) [الصف : 13] [ ص: 123 ] فلا جرم أعلمهم الله تعالى ههنا أن . إيمانهم بالله يجمع لهم مع الحظ الوافر في الآخرة الخصب والغنى في الدنيا
والأشياء التي وعدهم من منافع الدنيا في هذه الآية خمسة :
أولها : قوله : ( يرسل السماء عليكم مدرارا ) وفي السماء وجوه :
أحدها : أن المطر منها ينزل إلى السحاب .
وثانيها : أن يراد بالسماء السحاب .
وثالثها : أن يراد بالسماء المطر من قوله :
إذا نزل السماء بأرض قوم [رعيناه وإن كانوا غضابا]
والمدرار الكثير الدرور ، ومفعال مما يستوي فيه المذكر والمؤنث ، كقولهم : رجل أو امرأة معطار ومثقال .
وثانيها : قوله : ( ويمددكم بأموال ) وهذا لا يختص بنوع واحد من المال بل يعم الكل .
وثالثها : قوله : ( وبنين ) ولا شك أن ذلك مما يميل الطبع إليه .
ورابعها : قوله : ( ويجعل لكم جنات ) أي بساتين .
وخامسها : قوله : ( ويجعل لكم أنهارا ) .
ثم قال : ( ما لكم لا ترجون لله وقارا ) وفيه قولان :
الأول : أن الرجاء ههنا بمعنى الخوف ، ومنه قول الهذلي :
إذا لسعته النحل لم يرج لسعها
والوقار العظمة والتوقير التعظيم ، ومنه قوله تعالى : ( وتوقروه ) بمعنى ما بالكم لا تخافون لله عظمة . وهذا القول عندي غير جائز ؛ لأن الرجاء ضد الخوف في اللغة المتواترة الظاهرة ، فلو قلنا : إن لفظة الرجاء في اللغة موضوعة بمعنى الخوف لكان ذلك ترجيحا للرواية الثابتة بالآحاد على الرواية المنقولة بالتواتر وهذا يفضي إلى القدح في القرآن ، فإنه لا لفظ فيه إلا ويمكن جعل نفيه إثباتا وإثباته نفيا بهذا الطريق .
الوجه الثاني : ما ذكره صاحب "الكشاف" وهو أن المعنى "ما لكم " لا تأملون لله توقيرا أي تعظيما ، والمعنى "ما لكم" لا تكونون على حال تأملون فيها تعظيم الله إياكم و"لله" بيان للموقر ، ولو تأخر لكان صلة للوقار .
وقوله تعالى : ( وقد خلقكم أطوارا ) في موضع الحال كأنه قال : ما لكم لا تؤمنون بالله ، والحال هذه وهي حال موجبة للإيمان به ( وقد خلقكم أطوارا ) أي تارات خلقكم أولا ترابا ، ثم خلقكم نطفا ، ثم خلقكم علقا ، ثم خلقكم مضغا ، ثم خلقكم عظاما ولحما ، ثم أنشأكم خلقا آخر .
وعندي فيه وجه ثالث : وهو أن القوم كانوا يبالغون في الاستخفاف بنوح عليه السلام فأمرهم الله تعالى بتوقيره وترك الاستخفاف به ، فكأنه قال لهم : إنكم إذا وقرتم نوحا وتركتم الاستخفاف به كان ذلك لأجل الله ، فما لكم لا ترجون وقارا وتأتون به لأجل الله ولأجل أمره وطاعته ، فإن كل ما يأتي به الإنسان لأجل الله ، فإنه لا بد وأن يرجو منه خيرا .
ووجه رابع : وهو أن الوقار وهو الثبات من وقر إذا ثبت واستقر ، فكأنه قال : ( ما لكم ) وعند هذا تم الكلام ، ثم قال على سبيل الاستفهام بمعنى الإنكار ( لا ترجون لله وقارا ) أي لا ترجون لله ثباتا وبقاء ، فإنكم لو رجوتم ثباته وبقاءه لخفتموه ، ولما أقدمتم على الاستخفاف برسله وأوامره ، والمراد من قوله : ( ترجون ) أي تعتقدون لأن الراجي للشيء معتقد له .