القول السادس : الكوثر هو القرآن ، وفضائله لا تحصى ( ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام ) [ لقمان : 27 ] ( قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي ) [ الكهف : 109 ] .
القول السابع : الكوثر الإسلام ، وهو لعمري الخير الكثير ، فإن به يحصل خير الدنيا والآخرة ، وبفواته يفوت خير الدنيا وخير الآخرة ، وكيف لا ، قال : ( والإسلام عبارة عن المعرفة ؟ أو ما لا بد فيه من المعرفة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ) [ البقرة : 269 ] وإذا كان الإسلام خيرا كثيرا فهو الكوثر ، فإن قيل : لم خصه بالإسلام ، مع أن نعمه عمت الكل ؟ قلنا : لأن الإسلام وصل منه إلى غيره ، فكان عليه السلام كالأصل فيه .
القول الثامن : [ ص: 119 ] الكوثر كثرة الأتباع والأشياع ، ولا شك أن له من الأتباع ما لا يحصيهم إلا الله ، وروي أنه عليه الصلاة والسلام ، قال : أنا دعوة خليل الله إبراهيم ، وأنا بشرى عيسى ، وأنا مقبول الشفاعة يوم القيامة ، فبينا أكون مع الأنبياء ، إذ تظهر لنا أمة من الناس فنبتدرهم بأبصارنا ما منا من نبي إلا وهو يرجو أن تكون أمته ، فإذا هم غر محجلون من آثار الوضوء ، فأقول : أمتي ورب الكعبة ، فيدخلون الجنة بغير حساب ، ثم يظهر لنا مثل ما ظهر أولا فنبتدرهم بأبصارنا ما من نبي إلا ويرجو أن تكون أمته ، فإذا هم غر محجلون من آثار الوضوء فأقول : أمتي ورب الكعبة ، فيدخلون الجنة بغير حساب ، ثم يرفع لنا ثلاثة أمثال ما قد رفع فنبتدرهم ، وذكر كما ذكر في المرة الأولى والثانية ، ثم قال : لتدخلن ثلاث فرق من أمتي الجنة قبل أن يدخلها أحد من الناس ولقد قال عليه الصلاة والسلام : ولو بالسقط تناكحوا تناسلوا تكثروا ، فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة .
فإذا كان يباهي بمن لم يبلغ حد التكليف ، فكيف بمثل هذا الجم الغفير ؟ فلا جرم حسن منه تعالى أن يذكره هذه النعمة الجسيمة ، فقال : ( إنا أعطيناك الكوثر ) .
القول التاسع : ( الكوثر ) الفضائل الكثيرة التي فيه ، فإنه باتفاق الأمة أفضل من جميع الأنبياء ، قال : يقال رجل كوثر إذا كان سخيا كثير الخير ، وفي صحاح اللغة : ( الكوثر ) السيد الكثير الخير ، فلما رزق الله تعالى المفضل بن سلمة محمدا هذه الفضائل العظيمة حسن منه تعالى أن يذكره تلك النعمة الجسيمة ، فيقول : ( إنا أعطيناك الكوثر ) .
القول العاشر : الكوثر رفعة الذكر ، وقد مر تفسيره في قوله : ( ورفعنا لك ذكرك ) .
القول الحادي عشر : أنه العلم قالوا : وحمل الكوثر على هذا أولى لوجوه :
أحدها : أن العلم هو الخير الكثير قال : ( وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما ) [ النساء : 113 ] وأمره بطلب العلم ، فقال : ( وقل رب زدني علما ) [ طه : 114 ] وسمى الحكمة خيرا كثيرا ، فقال : ( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ) [ البقرة : 269 ] .
وثانيها : أنا إما أن نحمل الكوثر على نعم الآخرة ، أو على نعم الدنيا ، والأول غير جائز ؛ لأنه قال : أعطينا ، ونعم الجنة سيعطيها لا أنه أعطاها ، فوجب حمل الكوثر على ما وصل إليه في الدنيا ، وأشرف الأمور الواصلة إليه في الدنيا هو العلم والنبوة داخلة في العلم ، فوجب حمل اللفظ على العلم .
وثالثها : أنه لما قال : ( أعطيناك الكوثر ) قال عقيبه : ( فصل لربك وانحر ) ، ولذلك قال في سورة النحل : ( والشيء الذي يكون متقدما على العبادة هو المعرفة أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون ) [ النحل : 2 ] وقال في طه : ( إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني ) [ طه : 14 ] فقدم في السورتين المعرفة على العبادة ؛ ولأن فاء التعقيب في قوله : ( فصل ) تدل على أن إعطاء الكوثر كالموجب لهذه العبادة ، ومعلوم أن الموجب للعبادة ليس إلا العلم .
القول الثاني عشر : أن الكوثر هو الخلق الحسن ، قالوا : ، فأما الانتفاع بالعلم ، فهو مختص بالعقلاء ، فكان نفع الخلق الحسن أعم ، فوجب حمل الكوثر عليه ، ولقد كان عليه السلام كذلك كان للأجانب كالوالد يحل عقدهم ويكفي مهمهم ، وبلغ حسن خلقه إلى أنهم لما كسروا سنه ، قال : " الانتفاع بالخلق الحسن عام ينتفع به العالم والجاهل والبهيمة والعاقل اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون " .
القول الثالث عشر : ، فقال في الدنيا : ( الكوثر هو المقام المحمود الذي هو الشفاعة وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ) [ الأنفال : 33 ] وقال في الآخرة : وعن شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي ، قال عليه السلام : أبي هريرة . إن لكل نبي دعوة مستجابة وإني خبأت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة
القول الرابع عشر : أن المراد من الكوثر هو هذه السورة ، قال : وذلك لأنها مع قصرها وافية بجميع منافع الدنيا والآخرة ، وذلك لأنها مشتملة على المعجز من وجوه :
أولها : أنا إذا حملنا [ ص: 120 ] الكوثر على كثرة الأتباع ، أو على كثرة الأولاد ، وعدم انقطاع النسل كان هذا إخبارا عن الغيب ، وقد وقع مطابقا له ، فكان معجزا .
وثانيها : أنه قال : ( فصل لربك وانحر ) وهو إشارة إلى زوال الفقر حتى يقدر على النحر ، وقد وقع فيكون هذا أيضا إخبارا عن الغيب .
وثالثها : قوله : ( إن شانئك هو الأبتر ) وكان الأمر على ما أخبر فكان معجزا .
ورابعها : أنهم عجزوا عن معارضتها مع صغرها ، فثبت أن ، إنما تقرر بها لأنهم لما عجزوا عن معارضتها مع صغرها فبأن يعجزوا عن معارضة كل القرآن أولى ، ولما ظهر وجه الإعجاز فيها من هذه الوجوه فقد تقررت النبوة ، وجه الإعجاز في كمال القرآن ، وتقرر أن وإذا تقررت النبوة فقد تقرر التوحيد ومعرفة الصانع ، وتقرر الدين والإسلام ، وإذا تقررت هذه الأشياء تقرر جميع خيرات الدنيا والآخرة فهذه السورة جارية مجرى النكتة المختصرة القوية الوافية بإثبات جميع المقاصد ، فكانت صغيرة في الصورة كبيرة في المعنى ، ثم لها خاصية ليست لغيرها ، وهي أنها ثلاث آيات ، وقد بينا أن كل واحدة منها معجز فهي بكل واحدة من آياتها معجز وبمجموعها معجز وهذه الخاصية لا توجد في سائر السور فيحتمل أن يكون المراد من الكوثر هو هذه السورة . القرآن كلام الله
القول الخامس عشر : أن المراد من محمد عليه السلام ، وهو المنقول عن الكوثر جميع نعم الله على لأن لفظ الكوثر يتناول الكثرة الكثيرة ، فليس حمل الآية على بعض هذه النعم أولى من حملها على الباقي فوجب حملها على الكل ، وروي أن ابن عباس ، لما روى هذا القول عن سعيد بن جبير قال له بعضهم : إن ناسا يزعمون أنه نهر في الجنة ، فقال ابن عباس سعيد : النهر الذي في الجنة من الخير الكثير الذي أعطاه الله إياه ، وقال بعض العلماء ظاهر قوله : ( إنا أعطيناك الكوثر ) يقتضي أنه تعالى قد أعطاه ذلك فيجب أن يكون الأقرب حمله على ما آتاه الله تعالى من النبوة والقرآن والذكر الحكيم والنصرة على الأعداء ، وأما الحوض وسائر ما أعد له من الثواب فهو وإن جاز أن يقال : إنه داخل فيه لأن ما ثبت بحكم وعد الله فهو كالواقع إلا أن الحقيقة ما قدمناه لأن ذلك وإن أعد له فلا يصح أن يقال على الحقيقة إنه أعطاه في حال نزول هذه السورة الكوثر بمكة ، ويمكن أن يجاب عنه بأن من أقر لولده الصغير بضيعة له يصح أن يقال : إنه أعطاه تلك الضيعة مع أن الصبي في تلك الحال لا يكون أهلا للتصرف ، والله أعلم .