أما التكليف فقوله تعالى : ( وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن ) وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال صاحب الكشاف : العامل في "إذا" إما مضمر نحو : واذكر إذ ابتلى إبراهيم ، أو إذ ابتلاه كان كيت وكيت ؛ وإما ( قال إني جاعلك ) .
المسألة الثانية : أنه تعالى وصف تكليفه إياه ببلوى توسعا لأن مثل هذا يكون منا على جهة البلوى والتجربة والمحنة من حيث لا يعرف ما يكون ممن يأمره ، فلما كثر ذلك في العرف بيننا جاز أن يصف الله تعالى أمره ونهيه بذلك مجازا لأنه تعالى لا يجوز عليه الاختبار والامتحان لأنه تعالى عالم بجميع المعلومات التي لا نهاية لها على سبيل التفصيل من الأزل إلى الأبد ، وقال هشام بن الحكم : إنه كان في الأزل عالما بحقائق الأشياء وماهياتها فقط ، فأما حدوث تلك الماهيات ودخولها في الوجود فهو تعالى لا يعلمها إلا عند وقوعها واحتج عليه بالآية والمعقول ، أما الآية فهي هذه الآية ، قال : إنه تعالى صرح بأنه يبتلي عباده ويختبرهم وذكر نظيره في سائر الآيات كقوله تعالى : ( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ) [ محمد : 31] وقال : ( ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) [هود : 7 ] وقال في هذه السورة بعد ذلك : ( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ) [البقرة : 155] وذكر أيضا ما يؤكد هذا المذهب نحو قوله : ( فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ) [طه : 44] وكلمة ( لعل ) للترجي وقال : ( ياأيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون ) [البقرة : 21] فهذه الآيات ونظائرها دالة على أنه سبحانه وتعالى لا يعلم وقوع الكائنات قبل وقوعها ، أما العقل فدل على وجوه :
أحدها : أنه تعالى لو كان عالما بوقوع الأشياء قبل وقوعها لزم نفي القدرة عن الخالق وعن الخلق ، وذلك محال فما أدى إليه مثله بيان الملازمة : أن ما علم الله تعالى وقوعه استحال أن لا يقع لأن العلم بوقوع الشيء وبلا وقوع ذلك الشيء متضادان والجمع بين الضدين محال ، وكذلك ما علم الله أنه لا يقع كان وقوعه محالا لعين هذه الدلالة ، فلو كان الباري تعالى عالما بجميع الأشياء الجزئية قبل وقوعها لكان بعضها واجب الوقوع وبعضها ممتنع الوقوع ، ولا قدرة البتة لا على الواجب ولا على الممتنع فيلزم نفي القدرة على هذه الأشياء عن الخالق تعالى وعن الخلق وإنما قلنا : إن ذلك محال أما في حق الخالق فلأنه ثبت أن العالم محدث وله مؤثر وذلك المؤثر يجب أن يكون قادرا إذ لو كان موجبا لذاته لزم من قدمه قدم العالم أو من حدوث العالم حدوثه ، وأما في حق الخلق فلأنا نجد من أنفسنا وجدانا ضروريا كوننا متمكنين من الفعل والترك ، على معنى أنا إن شئنا الفعل قدرنا عليه ، وإن شئنا الترك قدرنا على الترك ، فلو كان أحدهما واجبا والآخر ممتنعا لما حصلت هذه المكنة التي يعرف ثبوتها بالضرورة .
وثانيها : أن تعلق العلم بأحد المعلومين مغاير لتعلقه بالمعلوم الآخر ، ولذلك فإنه يصل منا تعقل أحد [ ص: 33 ] التعلقين مع الذهول عن التعلق الآخر ، ولو كان التعلقان تعلقا واحدا لاستحال ذلك ، لأن الشيء الواحد يستحيل أن يكون معلوما مذهولا عنه ، وإذا ثبت هذا فنقول : لو كان تعالى عالما بجميع هذه الجزئيات ، لكان له تعالى علوم غير متناهية ، أو كان لعلمه تعلقات غير متناهية ، وعلى التقديرين فيلزم حصول موجودات غير متناهية دفعة واحدة وذلك محال ، لأن مجموع تلك الأشياء أزيد من ذلك المجموع بعينه عند نقصان عشرة منه ، فالناقص متناه ، والزائد زاد على المتناهي بتلك العشرة ، والمتناهي إذا ضم إليه غير المتناهي كان الكل متناهيا ، فإذا وجود أمور غير متناهية محال ، فإن قيل : الموجود هو العلم ، فأما تلك التعلقات فهي أمور نسبية لا وجود لها في الأعيان ، قلنا : العلم إنما يكون علما لو كان متعلقا بالمعلوم ، فلو لم يكن ذلك التعلق حاصلا في نفس الأمر لزم أن لا يكون العلم علما في نفس الأمر وذلك محال .
وثالثها : أن هذه المعلومات التي لا نهاية لها ، هل يعلم الله عددها أو لا يعلم ، فإن علم عددها فهي متناهية ، لأن كل ما له عدد معين فهو متناه ، وإن لم يعلم الله تعالى عددها لم يكن عالما بها على سبيل التفصيل ، وكلامنا ليس إلا في العلم التفصيلي .
ورابعها : أن كل معلوم فهو متميز في الذهن عما عداه ، وكل متميز عما عداه فإن ما عداه خارج عنه ، وكل ما خرج عنه فهو متناه ، فإذن كل معلوم فهو متناه ، فإذن كل ما هو غير متناه استحال أن يكون معلوما .
وخامسها : أن الشيء إنما يكون معلوما لو كان للعلم تعلق به ونسبة إليه وانتساب الشيء إلى الشيء يعتبر تحققه في نفسه ، فإنه إذا لم يكن للشيء في نفسه تعين استحال أن يكون لغيره إليه من حيث هو هو نسبة ، والشيء المشخص قبل دخوله في الوجود لم يكن مشخصا البتة ، فاستحال كونه متعلق العلم ، فإن قيل : يبطل هذا بالمحالات والمركبات قبل دخولها في الوجود ، فإنا نعلمها وإن لم يكن لها تعينات البتة ، قلنا : هذا الذي أوردتموه نقض على كلامنا ، وليس جوابا عن كلامنا ، وذلك مما لا يزيل الشك والشبهة ، قالهشام : فهذه الوجوه العقلية تدل على أنه لا حاجة إلى صرف هذه الآيات عن ظواهرها .
واعلم أن هشاما كان رئيس الرافضة ، فلذلك ذهب قدماء الروافض إلى القول بالبداء ، أما الجمهور من المسلمين فإنهم اتفقوا على أنه سبحانه وتعالى يعلم الجزئيات قبل وقوعها ، واحتجوا عليها بأنها قبل وقوعها تصح أن تكون معلومة لله تعالى إنما قلنا إنها تصح أن تكون معلومة لأنا نعلمها قبل وقوعها فإنا نعلم أن الشمس غدا تطلع من مشرقها ، والوقوع يدل على الإمكان ، وإنما قلنا : إنه لما صح أن تكون معلومة وجب أن تكون معلومة لله تعالى ، لأن تعلق علم الله تعالى بالمعلوم أمر ثبت له لذاته ، فليس تعلقه ببعض ما يصح أن يعلم أولى من تعلقه بغيره ، فلو حصل التخصيص لافتقر إلى مخصص ، وذلك محال ، فوجب أن لا يتعلق بشيء من المعلومات أصلا وإن تعلق بالبعض فإنه يتعلق بكلها وهو المطلوب .
أما الشبهة الأولى : فالجواب عنها أن العلم بالوقوع تبع للوقوع ، والوقوع تبع للقدرة ، فالتابع لا ينافي المتبوع ، فالعلم لازم لا يغني عن القدرة .
وأما الشبهة الثانية : فالجواب عنها : أنها منقوضة بمراتب الأعداد التي لا نهاية لها .
وأما الشبهة الثالثة : فالجواب عنها : أن الله تعالى لا يعلم عددها ، ولا يلزم منه إثبات الجهل ، لأن الجهل هو أن يكون لها عدد معين ، ثم إن الله تعالى لا يعلم عددها ، فأما إذا لم يكن لها في نفسها عدد ، لم [ ص: 34 ] يلزم من قولنا : أن الله تعالى لا يعلم عددها إثبات الجهل .
وأما الشبهة الرابعة : فالجواب عنها : أنه ليس من شرط المعلوم أن يعلم العلم تميزه عن غيره ، لأن العلم بتميزه عن غيره يتوقف على العلم بذلك الغير ، فلو كان توقف العلم بالشيء على العلم بتميزه عن غيره ، وثبت أن العلم بتميزه من غيره يوقف على العلم بغيره ، لزم أن لا يعلم الإنسان شيئا واحدا إلا إذا علم أمورا لا نهاية لها .
وأما الشبهة الخامسة : فالجواب عنها بالنقض الذي ذكرناه ، وإذا انتقضت الشبهة سقطت ، فيبقى ما ذكرناه من الدلالة على عموم عالمية الله تعالى سالما عن المعارض ، وبالله التوفيق .