أما قوله تعالى : ( وإن كانت ) ففيه مسائل :
المسألة الأولى : ( : جزاء ، ومخففة من الثقيلة ، وجحد ، وزائدة ، أما الجزاء فهي تفيد ربط إحدى الجملتين بالأخرى ، فالمستلزم هو الشرط ، واللازم هو الجزاء ، كقولك : إن جئتني أكرمتك ، وأما الثانية : وهي المخففة من الثقيلة فهي تفيد توكيد المعنى في الجملة بمعنى ( إن ) المشددة كقولك : إن زيدا لقائم ، قال الله تعالى : ( إن ) المكسورة الخفيفة ، معناها على أربعة أوجه إن كل نفس لما عليها حافظ ) [ الطارق : 4 ] وقال : ( إن كان وعد ربنا لمفعولا ) [ الإسراء : 108 ] ومثله في القرآن كثير ، والغرض في تخفيفها إيلاؤها ما لم يجز أن يليها من الفعل ، وإنما لزمت اللام هذه المخففة للعوض عما حذف منها ، والفرق بينها وبين التي للجحد في قوله تعالى : ( إن الكافرون إلا في غرور ) [ الملك : 20 ] وقوله : ( إن أتبع إلا ما يوحى إلي ) [ الأنعام : 50 ] إذ كانت كل واحدة منهما يليها الاسم والفعل جميعا كما وصفنا ، وأما الثالثة : وهي التي للجحد ، كقوله : ( إن الحكم إلا لله ) [ الأنعام : 57 ] وقال : ( إن تتبعون إلا الظن ) [ الأنعام : 148 ] وقال : ( ولئن زالتا إن أمسكهما ) [ فاطر : 41 ] أي : ما يمسكهما ، وأما الرابعة وهي الزائدة فكقولك : ما إن رأيت زيدا .
إذا عرفت هذا فنقول : ( إن ) في قوله : ( وإن كانت لكبيرة ) هي المخففة التي تلزمها اللام ، والغرض منها توكيد المعنى في الجملة .
المسألة الثانية : كانت ) إلى أي شيء يعود ؟ فيه وجهان : الضمير في قوله : (
الأول : أنه يعود إلى القبلة ؛ لأنه لا بد له من مذكور سابق وما ذاك إلا القبلة في قوله : ( وما جعلنا القبلة التي كنت عليها ) .
الثاني : أنه عائد إلى ما دل عليه الكلام السابق وهي مفارقة القبلة ، والتأنيث للتولية ؛ لأنه قال : ( ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها ) ثم قال عطفا على هذا : ( وإن كانت لكبيرة ) أي : وإن كانت التولية ؛ لأن قوله : ( ما ولاهم ) يدل على التولية ، كما قيل في قوله تعالى : ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق ) [ الأنعام : 121 ] ويحتمل أن يكون المعنى : وإن كانت هذه الفعلة ، نظيره قوله فبها ونعمت ، واعلم أن هذا البحث متفرع على المسألة التي قدمناها ، وهي أن الامتحان والابتلاء حصل بنفس القبلة ، أو بتحويل القبلة ، وقد بينا أن الثاني أولى؛ لأن الإشكال الحاصل بسبب النسخ أقوى من الإشكال الحاصل بسبب تلك الجهات ، ولهذا وصفه الله تعالى بالكبيرة في قوله : ( وإن كانت لكبيرة ) .
أما قوله تعالى : ( لكبيرة ) فالمعنى : لثقيلة شاقة مستنكرة كقوله : ( كبرت كلمة تخرج من أفواههم ) [ ص: 97 ] ( الكهف : 5 ) أي : عظمت الفرية بذلك ، وقال الله تعالى : ( سبحانك هذا بهتان عظيم ) [ النور : 16 ] وقال : ( إن ذلكم كان عند الله عظيما ) [ الأحزاب : 53 ] ثم إنا إن قلنا : الامتحان وقع بنفس القبلة ، قلنا : إن تركها ثقيل عليهم ؛ لأن ذلك يقتضي ترك الإلف والعادة ، والإعراض عن طريقة الآباء والأسلاف ، وإن قلنا : الامتحان وقع بتحريف القبلة ، قلنا : إنها لثقيلة من حيث إن الإنسان لا يمكنه أن يعرف أن ذلك حق إلا بعد أن عرف مسألة النسخ وتخلص عما فيها من السؤالات ، وذلك أمر ثقيل صعب إلا على من هداه الله تعالى حتى عرف أنه لا يستنكر ، كما لا يستنكر نقله إياهم من حال إلى حال في الصحة والسقم والغنى والفقر ، فمن اهتدى لهذا النظر ازداد بصره ، ومن سفه واتبع الهوى وظواهر الأمور ثقلت عليه هذه المسألة . نقل القبلة من جهة إلى جهة
أما إلا على الذين هدى الله ) فاحتج الأصحاب بهذه الآية في مسألة قوله : ( ، فقالوا : المراد من الهداية إما الدعوة أو وضع الدلالة أو خلق المعرفة ، والوجهان الأولان هاهنا باطلان ، وذلك لأنه تعالى حكم بكونها ثقيلة على الكل إلا على الذين هدى الله ، فوجب أن يقال : إن الذي هداه الله لا يثقل ذلك عليه ، والهداية بمعنى الدعوة ، ووضع الدلائل عامة في حق الكل ، فوجب أن لا يثقل ذلك على أحد من الكفار ، فلما ثقل عليهم علمنا أن المراد من الهداية هاهنا خلق المعرفة والعلم وهو المطلوب ، قالت خلق الأعمال المعتزلة : الجواب عنه من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن الله تعالى ذكرهم على طريق المدح فخصهم بذلك .
وثانيها : أراد به الاهتداء .
وثالثها : أنهم الذين انتفعوا بهدى الله فغيرهم كأنه لم يعتد بهم .
والجواب عن الكل : أنه ترك للظاهر ، فيكون على خلاف الأصل ، والله أعلم .