المسألة الثالثة : قال صاحب التهذيب : المسجد الحرام يستحب أن يقف الإمام خلف المقام ، والقوم يقفون مستديرين بالبيت ، فإن كان بعضهم أقرب إلى البيت من الإمام جاز ، فلو امتد الصف في المسجد فإنه لا تصح الجماعة إذا صلوا في الكعبة ، وعند صلاة من خرج عن محاذاة تصح ؛ لأن عنده الجهة كافية ، وهذا اختيار أبي حنيفة - رحمه الله - في كتاب الإحياء ، حجة الشيخ الغزالي - رضي الله عنه -: القرآن ، والخبر ، والقياس ، أما القرآن فهو ظاهر هذه الآية وذلك لأنا دللنا على أن المراد من شطر الشافعي المسجد الحرام جانبه ، وجانب الشيء هو الذي يكون محاذيا له وواقعا في سمته ، والدليل عليه أنه إنما يقال : إن زيدا ولى وجهه إلى جانب عمرو ، ولو قابل بوجهه وجهه ، وجعله محاذيا له ، حتى أنه لو كان وجه كل واحد منهما إلى جانب المشرق ، إلا أنه لا يكون وجه أحدهما محاذيا لوجه الآخر ، لا يقال : إنه ولى وجهه إلى جانب عمرو ، فثبت دلالة الآية على أن استقبال عين الكعبة واجب .
وأما الخبر فما روينا الكعبة ركع ركعتين في قبلة الكعبة وقال : " هذه القبلة " أنه - عليه الصلاة والسلام - لما خرج من ، وهذه الكلمة تفيد الحصر فثبت أنه لا قبلة إلا عين الكعبة ، وكذلك سائر الأخبار التي رويناها في أن القبلة هي الكعبة ، وأما القياس فهو أن مبالغة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تعظيم الكعبة أمر بلغ مبلغ التواتر، والصلاة من أعظم شعائر الدين ، وتوقيف صحتها على استقبال عين الكعبة بما يوجب حصول مزيد شرف الكعبة ، فوجب أن يكون مشروعا ، ولأن كون الكعبة قبلة أمر معلوم ، وكون غيرها قبلة أمر مشكوك ، والأولى رعاية الاحتياط في الصلاة ، فوجب الكعبة ، واحتج توقيف صحة الصلاة على استقبال بأمور . أبو حنيفة
الأول : ظاهر هذه الآية وذلك لأنه تعالى أوجب على المكلف أن يولي وجهه إلى جانبه ، فمن ولى وجهه إلى الجانب الذي حصلت الكعبة فيه فقد أتى بما أمر به سواء كان مستقبلا للكعبة أم لا ، فوجب أن يخرج عن العهدة ، وأما الخبر فما روى - رضي الله عنه - أنه عليه الصلاة والسلام قال : " أبو هريرة ما بين المشرق والمغرب قبلة " ، قال أصحاب - رحمه الله تعالى - : ليس المراد من هذا الحديث أن كل ما يصدق عليه أنه بين مشرق ومغرب فهو قبلة ؛ لأن جانب القطب الشمالي يصدق عليه ذلك ، وهو بالاتفاق ليس بقبلة ، بل المراد أن الشيء الذي هو بين مشرق معين ومغرب معين قبلة ، ونحن نحمل ذلك على الذي يكون بين المشرق الشتوي وبين المغرب الصيفي فإن ذلك قبلة وذلك لأن المشرق الشتوي جنوبي متباعد عن خط الاستواء بمقدار الميل ، والمغرب الصيفي شمالي متباعد عن خط الاستواء بمقدار الميل ، والذي بينهما هو سمت الشافعي مكة ، قالوا : فهذا الحديث بأن يدل على مذهبنا أولى منه بالدلالة على مذهبكم ، أما فعل الصحابة فمن وجهين :
الأول : أن أهل مسجد قباء كانوا في صلاة الصبح بالمدينة مستقبلين لبيت المقدس ، مستدبرين للكعبة ؛ لأن المدينة بينهما ، فقيل لهم : ألا إن الكعبة ، فاستداروا في أثناء الصلاة من غير طلب دلالة ، ولم ينكر النبي - صلى الله عليه وسلم - عليهم ، وسمي مسجدهم القبلة قد حولت إلى ، ومقابلة العين من بذي القبلتين المدينة إلى مكة لا تعرف إلا بأدلة هندسية يطول النظر فيها ، فكيف أدركوها على البديهة في أثناء الصلاة وفي ظلمة الليل .
الثاني : أن الناس من عهد [ ص: 105 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنوا المساجد في جميع بلاد الإسلام ، ولم يحضروا قط مهندسا عند تسوية المحراب ، ومقابلة العين لا تدرك إلا بدقيق نظر الهندسة .
وأما القياس فمن وجوه :
الأول : لو كان استقبال عين الكعبة واجبا إما علما أو ظنا ، وجب أن لا تصح صلاة أحد قط ؛ لأنه إذا كان محاذاة الكعبة مقدار نيف وعشرين ذراعا فمن المعلوم أن أهل المشرق والمغرب يستحيل أن يقفوا في محاذاة هذا المقدار ، بل المعلوم أن الذي يقع منهم في محاذاة هذا القدر القليل قليل بالنسبة إلى كثير ، ومعلوم أن العبرة في أحكام الشرع بالغالب ، والنادر ملحق به ، فوجب أن لا تصح صلاة أحد منهم لا سيما وذلك الذي وقع في محاذاة الكعبة لا يمكنه أن يعرف أنه وقع في محاذاتها ، وحيث اجتمعت الأمة على صحة صلاة الكل علمنا أن المحاذاة غير معتبرة ، فإن قيل : الدائرة وإن كانت عظيمة إلا أن جميع النقط المفروضة عليها تكون محاذية لمركز الدائرة ، فالصفوف الواقعة في العالم بأسرها كأنها دائرة بالكعبة ، والكعبة كأنها نقطة لتلك الدائرة إلا أن الدائرة إذا صغرت صغر التقوس والانحناء في جميعها ، وإن اتسعت وعظمت لم يظهر التقوس والانحناء في كل واحد من قسميها ، بل نرى كل قطعة منها شبيها بالخط المستقيم ، فلا جرم صحت الجماعة بصف طويل في المشرق والمغرب يزيد طولها على أضعاف البيت ، والكل يسمون متوجهين إلى عين الكعبة ، قلنا : هب أن الأمر على ما ذكرتموه ولكن القطعة من الدائرة العظيمة وإن كانت شبيهة بالخط المستقيم في الحس ، إلا أنها لا بد وأن تكون منحنية في نفسها ؛ لأنها لو كانت في نفسها مستقيمة ، وكذا القول في جميع قطع تلك الدائرة ، فحينئذ تكون الدائرة مركبة من خطوط مستقيمة يتصل بعضها ببعض ، فيلزم أن تكون الدائرة إما مضلعة أو خطا مستقيما وكل ذلك محال ، فعلمنا أن كل قطعة من الدائرة الكبيرة فهي في نفسها منحنية ، فالصفوف المتصلة في أطراف العالم إنما يكون كل واحد منهم مستقبلا لعين الكعبة لو لم تكن تلك الصفوف واقعة على الخط المستقيم ، بل إذا حصل فيها ذلك الانحناء القليل ، إلا أن ذلك الانحناء القليل الذي لا يفي بإدراكه الحس البتة ، لا يمكن أن يكون في محل التكليف ، وإذا كان كذلك كان كل واحد من هؤلاء الصفوف جاهلا بأنه هل هو مستقبل لعين الكعبة أم لا ، فلو كان استقبال عين الكعبة شرطا لكان حصول هذا الشرط مجهولا لك ، والشك في حصول الشرط يقتضي الشك في حصول المشروط ، فوجب أن يبقى كل واحد من أهل هذه الصفوف شاكا في صحة صلاته ، وذلك يقتضي أن لا يخرج عن العهدة البتة ، وحيث اجتمعت الأمة على أنه ليس كذلك علمنا أن استقبال العين ليس بشرط لا علما ولا ظنا ، وهذا كلام بين .
الثاني : أنه لو كان استقبال عين الكعبة واجبا ولا سبيل إليه إلا بالدلالة الهندسية ، وما لا يتأدى الواجب إلا به فهو واجب ، فكان يلزم أن يكون تعلم الدلالة الهندسية واجبا على كل أحد ، ولما لم يكن كذلك علمنا أن استقبال عين الكعبة غير واجب ، فإن قيل : عندنا استقبال عين الجهة واجب ظنا لا يقينا ، والمفتقر إلى الدلائل الهندسية هو الاستقبال يقينا لا ظنا ، قلنا : لو كان استقبال عين الكعبة واجبا لكان القادر على تحصيل اليقين لا يجوز له الاكتفاء بالظن ، والرجل قادر على تحصيل ذلك بواسطة فكان يجب عليه تعلم تلك الدلائل ، ولما لم يجب ذلك علمنا أن استقبال عين تعلم الدلائل الهندسية الكعبة واجب . [ ص: 106 ] الثالث : لو كان استقبال العين واجبا إما علما أو ظنا ، ومعلوم أنه لا سبيل إلى ذلك الظن إلا بنوع من أنواع الأمارات ، وما لا يتأدى الواجب إلا به فهو واجب ، فكان يلزم أن يكون تعلم تلك الأمارات فرض عين على كل واحد من المكلفين ، ولما لم يكن كذلك علمنا أن استقبال العين غير واجب .