أما قوله : ( هو موليها ) ففيه وجهان .
الأول : أنه عائد إلى الكل ، أي ولكل أحد وجهة هو مولي وجهه [ ص: 120 ] إليها .
الثاني : أنه عائد إلى اسم الله تعالى ، أي : الله تعالى يوليها إياه ، وتقدير الكلام على الوجه الأول أن نقول : إن لكل منكم وجهة أي جهة من القبلة هو موليها ، أي هو مستقبلها . ومتوجه إليها لصلاته التي هو متقرب بها إلى ربه ، وكل يفرح بما هو عليه ولا يفارقه ، فلا سبيل إلى اجتماعكم على قبلة واحدة ، مع لزوم الأديان المختلفة : ( فاستبقوا الخيرات ) أي : فالزموا معاشر المسلمين قبلتكم فإنكم على خيرات من ذلك في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فلشرفكم بقبلة إبراهيم ، وأما في الآخرة فللثواب العظيم الذي تأخذونه على انقيادكم لأوامره فإن إلى الله مرجعكم ، ، فيفصل بين المحق منكم والمبطل ، حتى يتبين من المطيع منكم ومن العاصي ، ومن المصيب منكم ومن المخطئ ، إنه على ذلك قادر ، ومن قال بهذا التأويل قال : المراد أن لكل من أهل الملل وجهة قد اختارها ، إما بشريعة وإما بهوى ، فلستم تؤخذون بفعل غيركم ، فإنما لهم أعمالهم ولكم أعمالكم ، وأما تقرير الكلام على الوجه الثاني أعني أن يكون الضمير في قوله : ( وأينما تكونوا من جهات الأرض يأت بكم الله جميعا في صعيد القيامة هو موليها ) عائدا إلى الله تعالى فهاهنا وجهان .
الأول : أن الله عرفنا أن كل واحدة من هاتين القبلتين اللتين هما بيت المقدس والكعبة جهة يوليها الله تعالى عباده ، إذا شاء يفعله على حسب ما يعلمه صلاحا ، فالجهتان من الله تعالى ، وهو الذي ولى وجوه عباده إليهما ، فاستبقوا الخيرات بالانقياد لأمر الله في الحالتين ، فإن انقيادكم خيرات لكم ، ولا تلتفتوا إلى مطاعن هؤلاء الذين يقولون : ( ما ولاهم عن قبلتهم ) فإن الله يجمعكم وهؤلاء السفهاء جميعا في عرصة القيامة ، فيفصل بينكم .
الثاني : أنا إذا فسرنا قوله : ( ولكل وجهة ) بجهات الكعبة ونواحيها ، كان المعنى : ولكل قوم منكم معاشر المسلمين وجهة ، أي ناحية من الكعبة : ( فاستبقوا الخيرات ) بالتوجه إليها من جميع النواحي ، فإنها وإن اختلفت بعد أن تؤدى إلى الكعبة فهي كجهة واحدة ، ولا يخفى على الله نياتهم فهو يحشرهم جميعا ويثيبهم على أعمالهم .
أما قوله تعالى : ( هو موليها ) أي : هو موليها وجهه فاستغنى عن ذكر الوجه ، قال الفراء : أي مستقبلها ، وقال أبو معاذ : موليها على معنى متوليها ، يقال : قد تولاها ورضيها وأتبعها ، وفي قراءة عبد الله بن عامر النخعي : ( هو مولاها ) وهي قراءة ، ابن عباس وأبي جعفر ، ، وفي قراءة الباقين : ( موليها ) ولقراءة ومحمد بن علي الباقر ابن عامر معنيان . أحدهما : أن ما وليته فقد ولاك ؛ لأن معنى وليته أي جعلته بحيث تليه ، وإذا صار هذا بحيث يلي ذلك فذاك أيضا يلي هذا ، فإذن قد ولي كل واحد منهما الآخر وهو كقوله تعالى : ( فتلقى آدم من ربه كلمات ) [ البقرة : 37 ] و ( لا ينال عهدي الظالمين ) [ البقرة : 124 ] والظالمون ، وهذا قول الفراء .
والثاني : ( هو موليها ) أي : وقد زينت له تلك الجهة وحببت إليه ، أي صارت بحيث يحبها ويرضاها .