المسألة السادسة : ظاهر قوله تعالى : ( فلا جناح عليه ) أنه لا إثم عليه ، والذي يصدق عليه أنه لا إثم [ ص: 145 ] في فعله يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح ، ثم يمتاز كل واحد من هذه الثلاثة عن الآخر بقيد زائد ، فإذا ظاهر هذه الآية لا يدل على أن الصفا والمروة واجب ، أو ليس بواجب ؛ لأن اللفظ الدال على القدر المشترك بين الأقسام لا دلالة فيه البتة على خصوصية من الرجوع إلى دليل آخر ، إذا عرفت هذا فنقول : مذهب السعي بين - رحمه الله - أن هذا السعي ركن ، ولا يقوم الدم مقامه ، وعند الشافعي - رحمه الله - أنه ليس بركن ، ويقوم الدم مقامه ، وروي عن أبي حنيفة ابن الزبير ، ، ومجاهد وعطاء ، أن من تركه فلا شيء عليه ، حجة - رضي الله عنه - من وجوه : الشافعي
أحدها : ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " " ، فإن قيل : هذا الحديث متروك الظاهر ؛ لأنه يقتضي وجوب السعي وهو العدو ، ذلك غير واجب قلنا : لا نسلم أن السعي عبارة عن العدو بدليل قوله : ( إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا فاسعوا إلى ذكر الله ) [ الجمعة : 9 ] والعدو فيه غير واجب ، وقال الله تعالى : ( وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) [ النجم : 39 ] وليس المراد منه العدو ، بل الجد والاجتهاد في القصد والنية ، سلمنا أنه يدل على العدو ، ولكن العدو مشتمل على صفة ترك العمل به في حق هذه الصفة ، فيبقى أصل المشي واجبا .
وثانيها : ما ثبت أنه - عليه السلام - سعى لما دنا من الصفا في حجته ، وقال : " " فبدأ إن الصفا والمروة من شعائر الله ابدءوا بما بدأ الله به بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت ، وإذا ثبت أنه - عليه السلام - سعى وجب أن يجب علينا السعي للقرآن والخبر ، أما القرآن : فقوله تعالى : ( واتبعوه ) وقوله : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني ) [ آل عمران : 31 ] وقوله : ( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ) [ الأحزاب : 21 ] وأما الخبر فقوله - عليه السلام - : " " والأمر للوجوب . وثالثها : أنه أشواط شرعت في بقعة من بقاع الحرم ، أو يؤتى به في إحرام كامل فكان جنسها ركنا كطواف الزيارة ، ولا يلزم طواف الصدر ؛ لأن الكلام للجنس لوجوبه مرة ، واحتج خذوا عني مناسككم - رضي الله عنه - بوجهين : أبو حنيفة
أحدهما : هذه الآية وهي قوله : ( فلا جناح عليه أن يطوف بهما ) وهذا لا يقال في الواجبات . ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله : ( ومن تطوع خيرا ) فبين أنه تطوع وليس بواجب .
وثانيهما : قوله : " عرفة " ومن أدرك عرفة فقد تم حجه ، وهذا يقتضي التمام من جميع الوجوه ، ترك العمل به في بعض الأشياء ، فيبقى معمولا به في السعي ، والجواب عن الأول من وجوه : الحج
الأول : ما بينا أن قوله : ( فلا جناح عليه ) ليس فيه إلا أنه لا إثم على فاعله ، وهذا القدر المشترك بين الواجب وغيره ، فلا يكون فيه دلالة على نفي الوجوب ، والذي يحقق ذلك قوله تعالى : ( فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم ) [ النساء : 101 ] والقصر عند واجب ، مع أنه قال فيه : ( أبي حنيفة فلا جناح عليه ) فكذا هاهنا .
الثاني : أنه رفع الجناح عن الطواف بهما لا عن الطواف بينهما ، وعندنا الأول غير واجب ، وإنما الثاني هو الواجب .
الثالث : قال : كان على ابن عباس الصفا صنم وعلى المروة صنم وكان أهل الجاهلية يطوفون بهما ويتمسحون بهما فلما جاء الإسلام كره المسلمون الطواف بينهما لأجل الصنمين ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، إذا عرفت هذا فنقول انصرفت الإباحة إلى وجود الصنمين حال الطواف لا إلى نفس الطواف كما لو كان في الثوب نجاسة يسيرة عندكم ، أو دم البراغيث عندنا ، فقيل : لا جناح عليك أن تصلي فيه ، فإن رفع الجناح ينصرف إلى مكان النجاسة لا إلى نفس الصلاة .
الرابع : روي عن عروة أنه قال : إني أرى أن لا حرج علي في أن لا أطوف بهما ، فقالت : بئس ما قلت لو كان كذلك لقال : أن لا يطوف بهما ، ثم حكى ما تقدم من الصنمين ، وتفسير لعائشة راجح على تفسير التابعين ، فإن قالوا : قرأ عائشة ابن مسعود : ( فلا جناح [ ص: 146 ] عليه أن لا يطوف بهما ) واللفظ أيضا محتمل له كقوله : ( يبين الله لكم أن تضلوا ) [ النساء : 176 ] أي أن لا تضلوا ، وكقوله تعالى : ( أن تقولوا يوم القيامة ) [ الأعراف : 172 ] معناه : أن لا تقولوا ، قلنا : القراءة الشاذة لا يمكن اعتبارها في القرآن ؛ لأن تصحيحها يقدح في كون القرآن متواترا .
الخامس : كما أن قوله : ( فلا جناح عليه ) لا يطلق على الواجب ، فكذلك لا يطلق على المندوب ، ولا شك في أن السعي مندوب ، فقد صارت الآية متروكة العمل بظاهرها .
وأما التمسك بقوله : ( فمن تطوع خيرا ) فضعيف ؛ لأن هذا لا يقتضي أن يكون المراد من هذا التطوع هو الطواف المذكور أولا ، بل يجوز أن يكون المقصود منه شيئا آخر قال الله تعالى : ( وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين ) [ البقرة : 184 ] ثم قال : ( فمن تطوع خيرا فهو خير له ) فأوجب عليهم الطعام ، ثم ندبهم إلى فكان المعنى : فمن تطوع وزاد على طعام مسكين كان خيرا ، فكذا هاهنا يحتمل أن يكون هذا التطوع مصروفا إلى شيء آخر وهو من وجهين : التطوع بالخير
أحدهما : أنه يزيد في الطواف فيطوف أكثر من الطواف الواجب مثل أن يطوف ثمانية أو أكثر .
الثاني : أن يتطوع بعد حج الفرض وعمرته بالحج والعمرة مرة أخرى حتى طاف بالصفا والمروة تطوعا ، وأما الحديث الذي تمسكوا به فنقول : ذلك الحديث عام وحديثنا خاص والخاص مقدم على العام والله أعلم .