المسألة الأولى : وجه الاستدلال بها أنها مخلوقة على وجه يقبل التصريف ، وهو الرقة واللطافة ، ثم إنه سبحانه يصرفها على وجه يقع به النفع العظيم في الإنسان والحيوان والنبات ، وذلك من وجوه :
أحدها : أنها مادة النفس الذي لو انقطع ساعة عن الحيوان لمات ، وقيل فيه : إن كل ما كانت الحاجة إليه أشد كان وجدانه أسهل ، ولما كان احتياج الإنسان إلى الهواء أعظم الحاجات حتى لو انقطع عنه لحظة لمات لا جرم كان وجدانه أسهل من وجدان كل شيء ، وبعد الهواء الماء فإن الحاجة إلى الماء أيضا شديدة دون الحاجة إلى الهواء فلا جرم سهل أيضا وجدان الماء ولكن وجدان الهواء أسهل ؛ لأن الماء لا بد فيه من تكلف الاغتراف بخلاف الهواء ، فإن الآلات المهيأة لجذبه حاضرة أبدا ، ثم بعد الماء الحاجة إلى الطعام شديدة ولكن دون الحاجة إلى الماء ، فلا جرم كان تحصيل الطعام أصعب من تحصيل الماء ، وبعد الطعام الحاجة إلى تحصيل المعاجين ، والأدوية النادرة قليلة ، فلا جرم عزت هذه الأشياء ، وبعد المعاجين الحاجة إلى أنواع الجواهر من اليواقيت والزبرجد نادرة جدا ، فلا جرم كانت في نهاية العزة ، فثبت أن كل ما كان الاحتياج إليه أشد ، كان وجدانه أسهل ، وكل ما كان الاحتياج إليه أقل كان وجدانه أصعب ، وما ذاك إلا رحمة منه على العباد ، ولما كانت الحاجة إلى رحمة الله تعالى أعظم الحاجات ، فنرجو أن يكون وجدانها أسهل من وجدان كل شيء ، وعبر الشاعر عن هذا المعنى فقال :
سبحان من خص القليل بعزه والناس مستغنون عن أجناسه وأذل أنفاس الهواء وكل ذي
نفس لمحتاج إلى أنفاسه
وثانيها : ، فلو أراد كل من في العالم أن يقلب الريح من الشمال إلى الجنوب ، أو إذا كان الهواء ساكنا أن يحركه لتعذر . لولا تحرك الرياح لما جرت الفلك ، وذلك مما لا يقدر عليه أحد إلا الله
المسألة الثانية : قال الواحدي : ( وتصريف الرياح ) أراد وتصريفه الرياح فأضاف المصدر إلى المفعول وهو كثير .
المسألة الثالثة : الرياح جمع الريح ، قال أبو علي : الريح اسم على فعل ، والعين منه واو انقلبت في الواحد للكسرة ياء ، فإنه في الجمع القليل أرواح ؛ وذلك لأنه لا شيء فيه يوجب الإعلال ، ألا ترى أن سكون الراء لا يوجب الإعلال ، كالواو في قوم وقول ، وفي الجمع الكثير رياح انقلبت الواو ياء للكسرة التي قبلها نحو [ ص: 182 ] ديمة وديم وحيلة وحيل ، قال : إنما سميت الريح ريحا ؛ لأن الغالب عليها في هبوبها المجيء بالروح والراحة ، وانقطاع هبوبها يكسب الكرب والغم ، فهي مأخوذة من الروح ، والدليل على أن أصلها الواو قولهم في الجمع أرواح . ابن الأنباري
المسألة الرابعة : قالوا : الرياح أربع ، الشمال والجنوب والصبا والدبور ، فالشمال من نقطة الشمال ، والجنوب من نقطة الجنوب ، والصبا مشرقية ، والدبور مغربية وتسمى الصبا قبولا ؛ لأنها استقبلت الدبور ، وما بين كل واحد من هذه المهاب فهي نكباء .
المسألة الخامسة : اختلف القراء في الرياح فقرأ أبو عمرو ، وعاصم ، وابن عامر ( الرياح ) على الجمع في عشرة مواضع : البقرة ، والأعراف ، والحجر ، والكهف ، والفرقان والنمل والروم في موضعين ، والجاثية وفاطر ، وقرأ نافع في اثني عشر موضعا هذه العشرة وفي إبراهيم : ( كرماد اشتدت به الرياح ) [ إبراهيم : 18 ] وفي حم عسق : ( إن يشأ يسكن الريح ) [ الشورى : 33 ] وقرأ ابن كثير : ( الرياح ) في خمسة مواضع ؛ البقرة والحجر والكهف والروم في موضعين ، وقرأ الكسائي في ثلاثة مواضع : في الحجر والفرقان والروم الأول منها .
واعلم أن كل واحد من هذه الرياح مثل الأخرى في دلالتها على الوحدانية ، وأما من وحد فإنه يريد به الجنس ، كقولهم : أهلك الناس الدينار والدرهم ، وإذا أريد بالريح الجنس كانت قراءة من وحد كقراءة من جمع ، فأما ما روي في الحديث من فإنه يدل على أن مواضع الرحمة بالجمع أولى ، قال تعالى : ( أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا هبت الريح قال : : اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات ) [ الروم : 46 ] وإنما يبشر بالرحمة ، وقال في موضع الإفراد : ( وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم ) [ الذاريات : 41 ] وقد يختص اللفظ في القرآن بشيء فيكون أمارة له ، فمن ذلك أن عامة ما جاء في التنزيل من قوله تعالى : ( وما يدريك لعل الساعة قريب ) [ الشورى : 17 ] وما كان من لفظ أدراك فإنه مفسر لمبهم غير معين كقوله : ( وما أدراك ما القارعة ) [ القارعة : 3 ] ( وما أدراك ما هيه ) [القارعة : 6] .