المسألة الثانية : اختلفوا في التي دلت هذه الآية على إيجابها فقال كيفية المماثلة : يراعى جهة القتل الأول فإن كان الأول قتله بقطع اليد قطعت يد القاتل فإن مات منه في تلك المرة وإلا حزت رقبته ، وكذلك لو أحرق الأول بالنار أحرق الثاني ، فإن مات في تلك المرة وإلا حزت رقبته ، وقال الشافعي رحمه الله : المراد بالمثل تناول النفس بأرجى ما يمكن ، فعلى هذا لا اقتصاص إلا بالسيف بحز الرقبة . حجة أبو حنيفة رحمه الله أن الله تعالى أوجب التسوية بين الفعلين وذلك يقتضي حصول التسوية من جميع الوجوه الممكنة ، ويدل عليه وجوه : الشافعي
أحدها : أنه يجوز أن يقال : كتبت التسوية في القتلى إلا في كيفية القتل ، والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل ، فدخل هذا على أن كيفية القتل داخلة تحت النص .
وثانيها : أنا لو لم نحكم بدلالة هذه الآية على التسوية في كل الأمور لصارت الآية مجملة ، ولو حكمنا فيها بالعموم كانت [ ص: 43 ] الآية مفيدة ، لكنها بما صارت مخصوصة في بعض الصور ، والتخصيص أهون من الإجمال .
وثالثها : أن الآية لو لم تفد إلا الإيجاب للتسوية في أمر من الأمور فلا شيئين إلا وهما متساويان في بعض الأمور ، فحينئذ لا يستفاد من هذه الآية شيء البتة ، وهذا الوجه قريب من الثاني ، فثبت أن هذه الآية تفيد وجود التسوية من كل الوجوه ، ثم تأكد هذا النص بسائر النصوص المقتضية لوجوب المماثلة ، كقوله تعالى : ( وجزاء سيئة سيئة مثلها ) [ الشورى : 40 ] ( فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم ) [ البقرة : 194 ] ، ( من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ) [ غافر : 40 ] ثم تأكدت هذه النصوص المتواترة بالخبر المشهور عن الرسول عليه السلام وهو قوله : " من حرق حرقناه ، ومن غرق غرقناه " ومما يروى أن يهوديا رضخ رأس صبية بالحجارة فقتلها ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن ترضخ رأس اليهودي بالحجارة ، وإذا ثبت هذا بلغت دلالة الآية مع سائر الآيات ، ومع هذه الأحاديث على قول مبلغا قويا . الشافعي
واحتج بقوله عليه السلام : " أبو حنيفة " وبقوله عليه السلام : " لا قود إلا بالسيف " . لا يعذب بالنار إلا ربها
والجواب أن الأحاديث لما تعارضت بقيت دلالة الآيات خالية عن المعارضات والله أعلم .
المسألة الثالثة : اتفقوا على أن هذا ؛ فإن القصاص مشروع في حقه عقوبة من الله تعالى ، وأما إذا كان تائبا فقد اتفقوا على أنه لا يجوز أن يكون عقوبة ، وذلك لأن الدلائل دلت على أن التوبة مقبولة قال تعالى : ( القاتل إذا لم يتب وأصر على ترك التوبة وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ) [ الشورى : 25 ] وإذا صارت التوبة مقبولة امتنع أن يبقى التائب مستحقا للعقاب ، ولأنه عليه السلام قال : " التوبة تمحو الحوبة " فثبت أن شرع القصاص في حق التائب لا يمكن أن يكون عقوبة ، ثم عند هذا اختلفوا فقال أصحابنا : يفعل الله ما يشاء ولا اعتراض عليه في شيء ، وقالت المعتزلة : إنما شرع ليكون لطفا به ، ثم سألوا أنفسهم فقالوا : إنه لا تكلف بعد القتل فكيف يكون هذا القتل لطفا به ؟ وأجابوا عنه بأن هذا القتل فيه منفعة لولي المقتول من حيث التشفي ومنفعة لسائر المكلفين من حيث يزجر سائر الناس عن القتل ، ومنفعة للقاتل من حيث إنه متى علم أنه لا بد وأن يقتل صار ذلك داعيا له إلى الخير وترك الإصرار والتمرد .