( ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون ) .
قوله تعالى : ( ولكم في القصاص حياة ياأولي الألباب لعلكم تتقون ) .
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما أوجب في الآية المتقدمة القصاص وكان القصاص من باب الإيلام توجه فيه سؤال وهو أن يقال : كيف يليق بكمال رحمته إيلام العبد الضعيف ؟ فلأجل دفع هذا السؤال ذكر عقيبه فقال : ( حكمة شرع القصاص ولكم في القصاص حياة ) وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : في الآية : وجوه
الأول : أنه ليس المراد من هذه الآية أن نفس القصاص حياة ؛ لأن القصاص إزالة للحياة ، وإزالة الشيء يمتنع أن تكون نفس ذلك الشيء ، بل المراد أن شرع القصاص يفضي إلى الحياة في حق من يريد أن يكون قاتلا ، وفي حق من يراد جعله مقتولا وفي حق غيرهما أيضا ، أما في حق من يريد أن يكون قاتلا فلأنه إذا علم أنه لو قتل قتل ترك القتل فلا يقتل فيبقى حيا ، وأما في حق من يراد جعله مقتولا فلأن من أراد قتله إذا خاف من القصاص ترك قتله فيبقى غير مقتول ، وأما في حق غيرهما فلأن في شرع القصاص بقاء من هم بالقتل ، أو من يهم به ، وفي بقائهما بقاء من يتعصب لهما ؛ لأن الفتنة تعظم بسبب القتل فتؤدي إلى المحاربة التي تنتهي إلى قتل عالم من الناس ، وفي تصور كون القصاص مشروعا [ ص: 49 ] زوال كل ذلك وفي زواله حياة الكل .
الوجه الثاني : في تفسير الآية أن المراد منها أن نفس القصاص سبب الحياة وذلك ؛ لأن سافك الدم إذا أقيد منه ارتدع من كان يهم بالقتل فلم يقتل ، فكان القصاص نفسه سببا للحياة من هذا الوجه ، واعلم أن الوجه الذي ذكرناه غير مختص بالقصاص الذي هو القتل ، يدخل فيه القصاص في الجوارح والشجاج ، وذلك لأنه إذا علم أنه إن جرح عدوه اقتص منه زجره ذلك عن الإقدام ، فيصير سببا لبقائهما ؛ لأن المجروح لا يؤمن فيه الموت ، وكذلك الجارح إذا اقتص منه ، وأيضا فالشجة والجراحة التي لا قود فيها داخلة تحت الآية ؛ لأن الجارح لا يأمن أن تؤدي جراحته إلى زهوق النفس فيلزم القود ، فخوف القصاص حاصل في النفس .
الوجه الثالث : أن المراد من القصاص إيجاب التسوية فيكون المراد أن في إيجاب التسوية حياة لغير القاتل ؛ لأنه لا يقتل غير القاتل بخلاف ما يفعله أهل الجاهلية وهو قول السدي .
والوجه الرابع : قرأ أبو الجوزاء ( ولكم في القصاص حياة ) أي فيما قص عليكم من حكم القتل والقصاص وقيل : ( القصاص ) القرآن ، أي لكم في القرآن حياة للقلوب كقوله : ( روحا من أمرنا ) [ الشورى : 52 ] و ( ويحيا من حي عن بينة ) [ الأنفال : 42 ] . والله أعلم .